هل الأزمة المالية صدمة أم نتيجة حتمية؟ الجدل بين برنانكي وكيندلبرغر والمقريزي

هناك نكتة اقتصادية متداولة تقول:
“منحت جائزة نوبل لاقتصادي لأنه قال العكس تمامًا مما قاله اقتصادي آخر.”
وقد تجسدت هذه النكتة في عام 2022 عندما حصل بن برنانكي، رئيس الاحتياطي الفيدرالي السابق، على جائزة نوبل في الاقتصاد، رغم أن الأزمة المالية العالمية لعام 2008 أثبتت صحة أفكار تشارلز كيندلبرغر، الذي كان يرى الأزمات المالية من منظور مختلف تمامًا!
لكن الجدل حول أسباب الأزمات المالية ليس جديدًا، فقد تناوله المقريزي أيضًا قبل قرون، حيث كان من أوائل من حاولوا فهم جذور الأزمات الاقتصادية وتأثيرها على المجتمعات.
تحليل كيندلبرغر للأزمات المالية: نتيجة حتمية لخلل داخلي
كان تشارلز كيندلبرغر (1910-2003) اقتصاديًا أمريكيًا متخصصًا في التاريخ المالي والاقتصاد النقدي. في كتابه الهوس، الذعر، والانهيارات (1978)، وصف الأزمات المالية بأنها عملية تراكمية تحدث داخل النظام المالي نفسه، وليس مجرد أحداث مفاجئة.
حسب كيندلبرغر، تبدأ الأزمات بـ ارتفاع أسعار الأصول (مثل العقارات أو الأسهم)، مما يؤدي إلى توسع الائتمان، أي أن البنوك تمنح المزيد من القروض للمستثمرين. مع الوقت، تتحول هذه الدورة إلى فقاعة مالية، وعندما يدرك المستثمرون أن الأسعار مبالغ فيها، يهرعون للبيع، مما يؤدي إلى انهيار السوق.
يرى كيندلبرغر أن هناك سببين مترابطين لأي أزمة مالية:
*“السبب الأساسي” (Causa Remota): التوسع المفرط في الائتمان والمضاربات، مما يجعل النظام المالي هشًا.
*“السبب المباشر” (Causa Proxima): الحدث الذي يفقد المستثمرين ثقتهم، مثل إفلاس بنك كبير أو انهيار سوق الأسهم، لكنه ليس السبب الحقيقي، بل مجرد محفز لانفجار الأزمة.
برنانكي: الأزمات المالية مجرد صدمات مفاجئة!
أما بن برنانكي (مواليد 1953)، فقد شغل منصب رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي (2006-2014)، وكان المسؤول عن إدارة الأزمة المالية لعام 2008.
خلافًا لكيندلبرغر، كان برنانكي يعتقد أن الأزمات المالية تحدث بسبب “صدمة خارجية غير متوقعة”، وليس كنتيجة طبيعية لخلل داخلي في النظام المالي.
*في بحثه عن الكساد الكبير (1983)، قال إن الأزمات المصرفية تحدث دون علاقة واضحة بتوقعات المستثمرين أو سلوك الأسواق.
*لم يحاول تفسير لماذا تحدث الأزمات، بل ركّز على كيف تؤثر على الاقتصاد وكيفية التعامل معها بعد وقوعها.
العقلانية في الأسواق المالية
*كيندلبرغر: الأسواق قد تتصرف بعقلانية على مستوى الأفراد، لكنها تصبح غير مستقرة على مستوى السوق بالكامل، لأن القرارات الفردية قد تؤدي إلى انهيار شامل.
*برنانكي: الأسواق عقلانية في الغالب، وعندما تحدث الأزمات، يكون ذلك بسبب رد فعل غير متوقع من المستثمرين وليس نتيجة عيب هيكلي في النظام المالي.
*المقريزي: الأزمات المالية سببها سوء الإدارة والاحتكار والتلاعب بالعملة
أما تقي الدين المقريزي (1364-1442)، المؤرخ والاقتصادي الإسلامي، فقد درس الأزمات الاقتصادية التي ضربت مصر في العصور الوسطى، خاصة المجاعات التي وقعت في العصر المملوكي.
أسباب الأزمات المالية عند المقريزي
المقريزي رأى أن الأزمات الاقتصادية لا تحدث بشكل مفاجئ، بل نتيجة أسباب متراكمة داخل النظام الاقتصادي. ومن أبرز العوامل التي حددها:
1-سوء الإدارة الاقتصادية: الحكام والمسؤولون الذين يسيئون إدارة الموارد ويتخذون قرارات خاطئة يؤدون إلى عدم استقرار اقتصادي.
2-الاحتكار: احتكار السلع ورفع أسعارها بشكل مصطنع يؤدي إلى انهيار القدرة الشرائية وظهور المجاعات.
3-إفساد النقود: التلاعب في قيمة العملة وضرب النقود المغشوشة يؤدي إلى التضخم وفقدان الثقة في النظام المالي، وهو ما يعادل في العصر الحديث “التضخم الجامح” الذي يؤدي إلى الأزمات المالية.
كيف يمكن مقارنة أفكار المقريزي بكيندلبرغر وبرنانكي؟
*يتفق المقريزي وكيندلبرغر في أن الأزمات ليست مفاجئة، بل نتيجة تراكمات داخلية، سواء كانت مضاربات وديون (كيندلبرغر) أو احتكارًا وتلاعبًا بالأسواق (المقريزي).
*يختلف المقريزي عن برنانكي، حيث يرى أن الأزمات ليست “حوادث فجائية” بل نتيجة اختلالات اقتصادية مستمرة.
جدول مقارنة بين كيندلبرغر وبرنانكي والمقريزي

ختامًا: من كان على حق؟
*أثبتت الأزمة المالية لعام 2008 صحة رؤية كيندلبرغر، حيث لم تكن صدمة مفاجئة، بل نتيجة فقاعة ديون متراكمة، وهو ما اضطر برنانكي إلى تنفيذ حلول كيندلبرغر رغم أنه لم يكن يؤمن بها في البداية!
*تحليل المقريزي لا يزال مفيدًا حتى اليوم، حيث نرى في الأزمات الاقتصادية الحديثة نفس الأسباب التي حددها منذ قرون، مثل الاحتكار، سوء الإدارة، والتضخم الجامح.
إذن، النكتة الاقتصادية تتحقق مجددًا: جائزة نوبل لبرنانكي، رغم أن كيندلبرغر والمقريزي كانا على حق طوال الوقت.