مقالات

الإيجارات القديمة في مصر.. أزمة تبحث عن حل

في قلب القاهرة القديمة، يعيش مسن سبعيني في شقة من غرفتين منذ أكثر من 45 عاماً، يدفع فيها إيجاراً شهرياً قدره 35 جنيهاً. وعلى بعد خطوات منه، تقف سيدة ستينية أمام منزلها المتهالك الذي تدفع فيه 42 جنيهاً شهرياً منذ عقود، تتساءل بقلق: “إلى أين سنذهب إذا طبق القانون الجديد؟”

هذه ليست حالات فردية، بل هي جزء من معضلة اجتماعية واقتصادية تمس حياة نحو 15 مليون مصري يعيشون في 3 ملايين وحدة سكنية خاضعة لقانون الإيجارات القديمة، في وقت تتصاعد فيه الدعوات لتحرير العلاقة الإيجارية بعد قرار المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية بعض مواد القانون.

مشكلة عالمية وليست مصرية فقط

تجدر الإشارة إلى أن مشكلة الإيجارات القديمة ليست مصرية فحسب، بل هي ظاهرة عالمية واجهتها العديد من الدول مثل فرنسا ولبنان والأردن وإسبانيا وألمانيا وبريطانيا. فقد مرت هذه الدول بتجارب مماثلة في تقييد الإيجارات خلال فترات ما بعد الحروب والأزمات الاقتصادية، ثم واجهت تحديات مشابهة عند محاولة تحرير أسواق الإيجارات وإصلاح التشوهات الناتجة عن عقود من التقييد.

أرقام تكشف حجم الأزمة

تكشف الإحصاءات الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أن الوحدات الخاضعة لقانون الإيجار القديم تمثل نحو 12% من إجمالي الوحدات السكنية في مصر، وتتركز بشكل كبير في المدن الكبرى، حيث تمثل 30% من الوحدات السكنية في القاهرة والإسكندرية.

 

والمثير للدهشة أن ثلث الأسر المستأجرة بعقود الإيجار القديم (نحو 600 ألف أسرة) تدفع إيجارات تقل عن 50 جنيهاً في الشهر، بينما تدفع 20% من الأسر (327 ألف أسرة) إيجارات تتراوح بين 50 و100 جنيه شهرياً.

 

وتعكس مشكلة الإيجارات القديمة أننا أمام تشوه كبير في سوق العقارات، فمتوسط الإيجار الشهري للوحدات الخاضعة للقانون القديم يبلغ حوالي 70 جنيهاً، مقابل متوسط 2500 جنيه للوحدات المماثلة في السوق الحر، أي بفارق يصل إلى 35 ضعفاً.”

كيف وصلنا إلى هنا؟ رحلة قوانين الإيجار في مصر

لفهم جذور المشكلة، علينا العودة إلى أربعينيات القرن الماضي، حين بدأت قصة تقييد الإيجارات في مصر كإجراء استثنائي لمواجهة ظروف اقتصادية واجتماعية طارئة.

في عام 1947، بعد الحرب العالمية الثانية وتخفيفا من آثارها صدر القانون رقم 121 كأول قانون ينظم العلاقة بين المالك والمستأجر ويضع قيوداً على الإخلاء. وكان الهدف حينها حماية المستأجرين في ظل ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية.

ثم توالت القوانين المقيدة للإيجارات، فصدر قانون 49 لسنة 1977 الذي منع زيادة الإيجارات وأقر الامتداد القانوني لعقود الإيجار، تلاه قانون 136 لسنة 1981 الذي أكد على استمرار الامتداد القانوني وثبّت الإيجار على أسعار وقت تحرير العقد.

 

والمشكلة أن هذه القوانين الاستثنائية تحولت مع مرور الوقت إلى وضع دائم، مما أدى إلى تجميد القيمة الإيجارية لملايين الوحدات السكنية والتجارية لعقود طويلة.”

وفي عام 1996، حاول المشرع المصري معالجة التشوه في سوق الإيجارات من خلال القانون رقم 4، الذي حرر العلاقة الإيجارية للعقود الجديدة فقط، مع استمرار العمل بالقوانين السابقة للعقود القديمة، مما خلق نظامين متوازيين للإيجار في مصر.

التعديلات المقترحة.. هل تحل الأزمة أم تفاقمها؟

في ضوء قرار المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية بعض مواد قانون الإيجار القديم، تم اقتراح تعديلات جديدة تهدف إلى تحرير العلاقة الإيجارية تدريجياً. ومن أبرز هذه التعديلات:

* تحرير العلاقة الإيجارية بعد 5 سنوات من تاريخ العمل بالقانون.

* زيادة القيمة الإيجارية للوحدات السكنية بما لا يقل عن 20 مثل القيمة الحالية، وبحد أدنى 1000 جنيه شهرياً.

* زيادة القيمة الإيجارية للوحدات غير السكنية بما لا يقل عن 5 أمثال القيمة الحالية.

* استمرار حق البقاء للمستأجر الأصلي وزوجه وأولاده القصر وغير المتزوجين من البالغين.

 

ويرى البعض: “أن التعديلات المقترحة خطوة في الاتجاه الصحيح لإنصاف الملاك الذين عانوا لعقود من عائد غير عادل على ممتلكاتهم، لكن التطبيق المفاجئ قد يخلق أزمة اجتماعية كبيرة.”

وعلي الجانب الآخر يرى آخرون: “نحن أمام معادلة صعبة، فمن ناحية هناك ضرورة لإنصاف الملاك، ومن ناحية أخرى هناك ملايين الأسر التي اعتادت على إيجارات منخفضة للغاية لعقود طويلة، وقد لا تستطيع تحمل الزيادة المفاجئة.”

 

بين مطرقة الملاك وسندان المستأجرين

“لم أعد قادراً على صيانة العقار، والإيجار الشهري لا يكفي حتى لشراء علبة سجائر”، هكذا يصف أحد ملاك العقارات القديمة معاناته مع قانون الإيجار القديم. ويضيف: “ورثت هذا العقار عن والدي، وأصبح عبئاً علي بدلاً من أن يكون مصدر دخل.”

في المقابل، تقول إحدى المستأجرات: “راتبي التقاعدي 1200 جنيه، كيف سأدفع إيجاراً بألف جنيه؟ أين سأذهب بعد كل هذه السنوات؟”

هذه المعادلة الصعبة تضع صناع القرار أمام تحدٍ كبير: كيف يمكن تحقيق التوازن بين حقوق الملاك في الحصول على عائد عادل من ملكيتهم، وحقوق المستأجرين في الاستقرار السكني؟

 

ماذا يحدث إذا طُبق القانون الجديد؟

تشير التقديرات إلى أن تطبيق التعديلات المقترحة بشكل مفاجئ قد يؤدي إلى زيادة كبيرة في الأعباء المالية على المستأجرين، خاصة مع ارتفاع تكاليف المعيشة وتراجع القدرة الشرائية للعملة المصرية.

وتحذر دراسة أعدها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية من أن التحرير المفاجئ للعلاقة الإيجارية قد يؤدي إلى “أزمة سكن حادة” تهدد الاستقرار الاجتماعي، خاصة في ظل محدودية البدائل السكنية المتاحة بأسعار معقولة.

ويرى خبراء اقتصاديون أن الحل يكمن في تبني نهج تدريجي في تحرير الإيجارات القديمة، مع توفير آليات فعالة للدعم الاجتماعي، وهو ما سنتناوله بالتفصيل في المقال القادم من هذه السلسلة.

 

في المقال القادم:

“التحرير المفاجئ للإيجارات.. آثار اقتصادية واجتماعية مقلقة” – نستعرض التداعيات المحتملة لتحرير العلاقة الإيجارية بشكل مفاجئ على المستأجرين والاقتصاد المصري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى