الخليج

مستقبل العلاقات العامة في السعودية … بين الأتمتة والإبداع البشري

تشهد صناعة العلاقات العامة في المملكة العربية السعودية والشرق الأوسط تحوّلًا جذريًا تقوده تقنيات الذكاء الاصطناعي، التي لم تعد مجرد أدوات مساعدة، بل باتت عنصرًا أساسيًا في التخطيط الاستراتيجي وصياغة الرسائل الاتصالية المؤثرة.

ومع تسارع خطوات تنفيذ مستهدفات رؤية 2030 نحو اقتصاد متنوع قائم على التقنية، لم يعد السؤال المطروح أمام المتخصصين هو: “هل نستخدم الذكاء الاصطناعي؟” بل أصبح: “كيف نُسخّر هذه التقنيات بذكاء دون أن نفقد اللمسة الإبداعية البشرية التي تمنح القصص عمقها الثقافي وروحها الإنسانية؟”

 

من الرصد اليدوي إلى التحليل اللحظي

 

لم يعد تحليل المشاعر العامة مسألة معقدة تتطلب ساعات من تصفّح الأخبار والتغريدات؛ إذ باتت أدوات التعلُّم الآلي قادرة على معالجة ملايين المنشورات خلال ثوانٍ، لترسم خرائط دقيقة لانطباعات الجمهور في الوقت الحقيقي، وهو ما يمكّن فرق العلاقات العامة من تصميم رسائل مخصصة بدقة، تستهدف شرائح متنوعة مثل: الشباب الشغوفين بالتقنية، وروّاد الأعمال في مجالي التقنية والتمويل، والمهتمين بالشأن العام في مختلف مناطق المملكة.

كما تطوّرت تقنيات الذكاء الاصطناعي من أدوات لإنتاج البيانات الصحفية ومنشورات شبكات التواصل الاجتماعي، إلى نظم ذكية تُصدر تنبيهات استباقية بالمخاطر المحتملة قبل أن تتفاقم إلى أزمات، ومع ذلك، تظل الكتابة والمراجعة البشرية أمرًا لا غنى عنه، للحفاظ على الحسّ الثقافي العميق، ودقة اللغة، وتناسق النبرة بما يتلاءم مع السياق المحلي ويعكس الهوية الوطنية.

 

تغيّر في نموذج عمل الوكالات

أحدث الذكاء الاصطناعي نقلة نوعية في آليات عمل وكالات العلاقات العامة، فقد تحوّلت المهام التقليدية مثل رصد المشاعر وتحليل المحتوى من عمليات يدوية مرهقة إلى أدوات مؤتمتة تعمل باللغتين العربية والإنجليزية، وتقدّم تقارير حية على مدار الساعة.

أما تقارير الأداء التي كانت تُعد شهريًا، فأصبحت الآن تحديثات لحظية ذكية، مما وفّر لفرق الاتصال وقتًا ثمينًا كان يُهدر في المهام التكرارية، ليُعاد توجيهه نحو ابتكار أفكار جديدة، وصياغة رسائل أكثر تأثيرًا، وبناء خرائط دقيقة لأصحاب المصلحة، وهو ما يعزّز دور البصيرة البشرية كعنصر محوري في صناعة القرار الاتصالي.

 

جمهور جديد.. وشخصيات افتراضية

أصبح الجمهور السعودي، خاصة من هم دون سن الثلاثين، أكثر تفاعلًا مع المحتوى الرقمي المُنتج بالكامل عبر الذكاء الاصطناعي، مثل الشخصيات الافتراضية التي تظهر في البث المباشر، أو تتصدر الحملات الإعلانية، أو تشارك في تجارب الواقع المعزز داخل المراكز التجارية.

ورغم ما توفّره هذه الشخصيات من جاذبية وعنصر تجديد يسهّل التوسع به، تتزايد في المقابل دعوات الجهات التنظيمية إلى مزيد من الشفافية، مما دفع العديد من العلامات التجارية إلى الإفصاح صراحة بأن الشخصية المستخدمة “افتراضية”، وقد أصبح هذا الإفصاح معيارًا مهنيًا أساسيًا، يساهم في تعزيز مصداقية الرسائل الاتصالية والحفاظ على ثقة الجمهور.

 

الاتصال الحكومي.. بلغة البيانات

لم تكن الجهات الحكومية بعيدة عن هذا التغيير، فقد أصبحت روبوتات الدردشة (Chatbots) جزءًا من البوابات الإلكترونية للوزارات، حيث تُجيب على استفسارات المواطنين باللغتين العربية والإنجليزية وعلى مدار الساعة، كما باتت أدوات النماذج اللغوية قادرة على تلخيص آلاف الملاحظات والآراء المجتمعية حول مشاريع القوانين والأنظمة في دقائق، ما يعزز بشكل كبير كفاءة صنع القرار.

ومع التوسع في مشاريع المدن الذكية، برز السرد القصصي القائم على البيانات كأداة فعالة، فمن خلال لوحات تفاعلية تشرح الإنجازات والمراحل الزمنية، يُعزز هذا السرد الدعم المجتمعي للمبادرات الوطنية بعيدة المدى.

 

بنية رقمية.. وإطار واضح

أسهمت الاستثمارات الضخمة في البنية التحتية الرقمية، مثل الحوسبة السحابية، والمنصات الوطنية للبيانات، بالإضافة إلى الدعم الحكومي للبحث العلمي، في تهيئة بيئة متقدمة لتبني الذكاء الاصطناعي في القطاع الإعلامي، كم كما أرست الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي قواعد واضحة تحمي الخصوصية، وتعزز التوطين، وتضمن الالتزام الأخلاقي.

وتشجع مسرعات الأعمال الحكومية التعاون بين خبراء الاتصال وعلماء البيانات لتطوير حلول اتصالية مبتكرة تتماشى مع الأهداف الاقتصادية والاجتماعية لرؤية 2030.

 

الأخلاق في صلب المعادلة

 

وفقًا لتقارير شركة W7Worldwide للدراسات الاستراتيجية والإعلامية، تركز مناقشات مجالس إدارة وكالات العلاقات العامة بالمملكة اليوم على ثلاث أولويات رئيسية، هي:

 

  1. الإفصاح: التأكيد على ضرورة التمييز بين المحتوى البشري والمُنتَج بالذكاء الاصطناعي، خصوصًا عند استخدام شخصيات افتراضية.
  2. مكافحة المعلومات المضللة: اعتماد أدوات متقدمة لكشف التزييف العميق كجزء أساسي من استراتيجيات إدارة الأزمات.
  3. الذكاء الثقافي: تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي على فهم السياقات المحلية واللغوية والثقافية، والابتعاد عن النماذج العالمية الجاهزة التي قد تنفّر الجمهور المحلي.

 

محاكاة أزمة.. وتجربة واقعية

وفي إحدى الحملات الإقليمية لصالح علامة تجارية سعودية، أجرت W7Worldwide تمرينًا لمحاكاة أزمة باستخدام نماذج الذكاء الاصطناعي، ونتج عنه تحديد 12 سيناريو أزمة محتملة، تنوعت بين تأخيرات في التوريد وردود فعل سلبية غاضبة على وسائل التواصل الاجتماعي.

وقد ساهمت هذه المحاكاة بشكل فعال في تقليص وقت الاستجابة للأزمات إلى النصف، كما أتاحت للوكالة إعداد نقاط نقاش استباقية لمواجهة أي أزمة حقيقية قبل وقوعها، وهو ما عزز من ثقة العميل بشكل كبير، وأكد على أن الذكاء الاصطناعي لا يحل محل البصيرة البشرية، بل يدعمها ويعززها.

 

إلى أين يتجه المستقبل؟

تشير الاتجاهات المستقبلية إلى تطورات تقنية ستُحدث تحولًا كبيرًا في استراتيجيات العمل، وتفتح آفاقًا جديدة أمام المؤسسات الإعلامية، أبرزها:

 

  • البحث الصوتي: سيُحدث تطور معالجة اللغة العربية الطبيعية (NLP) ثورة في البحث الصوتي، ما يستلزم من وسائل الإعلام إعادة النظر في استراتيجيات تحسين محركات البحث (SEO) لتتناسب مع طبيعة البحث الصوتي، وضمان وصول المحتوى للجمهور بأساليب جديدة.
  • تلخيص الفيديوهات: ستوفر أدوات الذكاء الاصطناعي حلولًا مبتكرة لتقليص الوقت المستغرق في عمليات المونتاج، وتسريع إنتاج المحتوى المرئي.

 

  • الاستدامة: أصبحت أدوات الذكاء الاصطناعي قادرة على قياس البصمة الكربونية، ورصد أثر مبادرات الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية (ESG)، تمامًا كما تُقاس التغطية الإعلامية، مما يُمكّن المؤسسات من دمج الاستدامة في تقاريرها الإعلامية.

 

الخلاصة:

يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل المشهد الإعلامي في المملكة العربية السعودية، مؤثرًا بشكل مباشر على سرعة ودقة وعمق ممارسات العلاقات العامة، ومع هذا التحول، يظل الإبداع البشري، والفهم الثقافي، والبوصلة الأخلاقية عناصر لا غنى عنها في العمل الاتصالي.

الوكالات وفرق العلاقات العامة التي ستنجح في دمج الأدوات التقنية المتقدمة بفعالية، مع الحفاظ على الشفافية وتعزيز الهوية المحلية، هي تلك التي ستمتلك القدرة الأكبر على ابتكار قصص مؤثرة وروايات مقنعة تقود المرحلة المقبلة، فهذه لحظة فارقة تتطلب من قطاع الاتصال أن يكون في طليعة التغيير، لا مجرد متابع له.


نبذة عن W7Worldwide:

تعد W7Worldwide للاستشارات الاستراتيجية والإعلامية، وكالة خليجية متخصصة وحائزة على جوائز عالمية وإقليمية. تتميز W7Worldwide بخبرتها الاحترافية في دراسات وأبحاث الصورة الذهنية خصوصًا، والأبحاث المرتبطة بتنمية قطاع العلاقات العامة والاتصال على وجه العموم، إضافة إلى الخدمات الرقمية والإبداعية، والتسويق عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتطوير صناعة المحتوى، وغيرها من الخدمات المباشرة بالقطاع، وذلك وفق مواصفات ومعايير عالمية.

كما قدمت خدماتها الاستشارية والاستراتيجية في مجال الاتصال للقطاعين الحكومي والخاص، والقطاع الثالث، وتتجاوز خبرتها نحو 15 عامًا في مجال التواصل والإعلام، وخدمت أكثر من 100 عميل من داخل وخارج السعودية في 20 قطاعًا حيويًّا، ما أهلها إلى امتلاك معادلة المعرفة الدولية، والإقليمية، والمحلية.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى