من ذكرياتي “البورصوية” في 1988/08/08 والأيام التالية (منذ 37 سنة)!

لمن لا يعرف ماذا حدث في 1988/08/08 نبلغه بأنه كان يوماً تاريخياً ومفصلياً في منطقة الشرق الأوسط، وربما العالم بأسره، عندما وافقت إيران بشكل مفاجئ (بعد رفض دام لسنوات طويلة) على قرار مجلس الأمن رقم 598 القاضي بطلب وقف إطلاق النار في الحرب العراقية الإيرانية، والذي وافق عليه العراق فور صدوره في 1987/07/20.
كنت شخصياً متابعاً لبورصة الكويت منذ أن “وعيت على الدنيا” بسبب اهتمام والدي رحمه الله بها، وقد تدهورت أوضاع بورصة الكويت بسبب تطورات الحرب العراقية الإيرانية التي كنّا نسمع مدافعها في الكويت العاصمة، خاصة بعد توسعها بإشعال إيران لحرب الناقلات واحتلالها لشبه جزيرة الفاو العراقية المتاخمة للكويت .. إلخ، وأذكر أن بورصة الكويت وصلت الحضيض عام 1986، وكذلك العقار والاقتصاد الكويتي بشكل عام على وقع تسارع المستجدات السلبية والتي شهدت انهيار أسعار النفط، حيث وصلت إلى نحو 6 دولار للبرميل، وبالتالي، سجّلت ميزانية دولة الكويت عجزاً قياسياً!
وفور إعلان موافقة إيران على وقف إطلاق النار مساء أو فجر 1988/08/08 (بتوقيت الكويت) وعصراً بتوقيت نيويورك، ارتفعت المعنويات في الكويت بشكل “صاروخي” لزوال الكابوس الذي جثم على صدورنا لـ 8 سنوات، وكمتابع للبورصة وقتها (وكان عمري 24 سنة وقتها)، توقعت كما توقع غيري قفزة صاروخية لأسعار الأسهم في بورصة الكويت صباح اليوم التالي 1988/08/09، فذهبت إليها (نفس المبنى الحالي)، فوجدتها مكتظة بالمتداولين الراغبين بشراء الأسهم بأي ثمن كون الأسعار وقتها كانت مغرية جداً بالنظر إلى المستجدات الإيجابية والمفاجئة للغاية التي كان وقعها علينا جميعاً كالصاعقة!
ولا ولن أنسى بأنني رأيت أحد كبار الفنانين في ذلك اليوم قرب شبّاك لأحد مكاتب الوساطة في الدور العلوي من ردهة البورصة، حيث كان يصدر الأوامر للدلال “السمسار” لشراء أي سهم معروض للبيع وبأي كمية وبأي ثمن، كما أذكر تماماً أنه كان جالساً على كرسي قرب شبّاك السمسار رغم منع ذلك من الإدارة لخصوصية وسرية أوامر البيع والشراء التي يتلقاها سماسرة البورصة من عملائهم، لكن الفنان الكبير له وضع “VVIP” ولا يستطيع أحد منعه من مخالفة اللوائح والتعليمات خاصة في هذا اليوم البورصوي التاريخي!
المهم، لم يتم عرض أي سهم في ذلك اليوم 1988/08/09 إطلاقاً رغم طلب جميع الأسهم بحدها الأعلى البالغ 10% فوق إقفالها السابق، ولم يكن وقتها معمولاً بفتح الحد الأقصى عند توفر الطلبات كما هو معمول به حالياً، وكذلك استمر الوضع في الفترة المسائية، حيث كان يتم التداول على فترتين، صباحية ومسائية، وعليه، عاد جميع المتداولين إلى بيوتهم دون شراء سهمٍ واحدٍ وبأي سعر نظراً لإحجام أصحاب الأسهم عن البيع انتظاراً لليوم التالي أو الأيام القادمة للبيع بسعر أعلى.
وذهبت شخصياً للبورصة في اليوم الثاني أو التالي 1988/08/10، فوجدتها مكتظة أيضاً بالمتداولين الراغبين بالشراء بأي ثمن كحال الأمس، ولم يتم بيع أي سهم بداية جلسة التداول رغم فتح سقف الأسعار بنسبة 10% إضافية عن إقفال الأمس، وبدأت تظهر العروض المتواضعة والخجولة في منتصف جلسة التداول، وتم شراؤها بالكامل وبالحد الأعلى فوراً، ثم ظهرت عروض أخرى وبدأت تكثر تدريجياً وارتفعت قيمة التداول في ذلك اليوم بشكل قياسي لتوفر العروض نسبياً مقابل الطلبات الهائلة، ثم انخفضت الأسعار عن مستوياتها العلياً، إلا أنها ارتفعت إلى حدها الأقصى في نهاية جلستي التداول (الصباحية والمسائية)، أي وجود طلبات شراء مع انعدام وجود طلبات البيع.
وأيضاً ذهبت إلى البورصة في اليوم الثالث الموافق 1988/08/11 فكانت قاعة البورصة مكتظة بالمتداولين كحال اليومين السابقين، ولكن توفرت العروض بالحد الأعلى وتم شراء بعضها في بداية الجلسة، ولكن دون اندفاع كاليوم السابق، فكثرت العروض وانخفضت الأسعار، فانهالت العروض وانخفضت الأسعار أكثر إلى حد وصول كثير من الأسهم إلى حدها الأدنى، وبذلك، انتهت “حفلة التفاؤل المفرط والجامح” في البورصة والاقتصاد بشكل عام، علماً بأن قيمة تداول ذلك اليوم كانت قياسية أيضاً.
وفي اليوم الرابع للتداول 1988/08/12، استمرت موجة جني الأرباح الذي أدى إلى انخفاض جماعي لأسعار الأسهم، وبالتالي، تراجع مؤشر البورصة بشكل حاد لانتهاء “الحفلة” كم أشرنا آنفاً، واستمر حال البورصة بعدها بأداء أفقي بشكل عام (تذبذب بين الارتفاع والانخفاض، أي ثبات نسبي لمتوسط الأسعار) لحين تدهور الأسعار بشكل ملفت بعد افتعال العراق للأزمة المعروفة مع الكويت ابتداءً من أوائل شهر يوليو 1990 لغاية 1990/08/01 آخر جلسة تداول في البورصة قبل الغزو الآثم في اليوم التالي 1990/08/02.
وفي الختام، نأسف على الإطالة في هذا المقال لكونه “وثائقياً” إلى حد ما، حيث استعرضنا من خلاله بشيء من التفصيل ما حدث في بورصة الكويت من وقائع تاريخية واستثنائية (كشاهد عيان) بعد إعلان إيران موافقتها المفاجئة على قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار مع العراق في 1988/08/08.
ناصر النفيسي
مركز الجُمان
في 2025/08/09
السعودية – أبها