مقالات

حين يغيب النجم ولا يغيب الأداء: دروس من كرة القدم لإدارة الشركات

الفريق الذي يواصل الفوز رغم غياب نجومه الأساسيين لا يعتمد على الحظ… بل على نظام.

المؤسسة التي تتعثر عند مغادرة مدير أو خبير محوري هي مؤسسة مكشوفة تشغيلياً.

كم شركة لديها “رونالدو” واحد يحمل المؤسسة على كتفيه؟

القيادة تحتاج لصفات أخرى: الذكاء العاطفي، التفكير الاستراتيجي، القدرة على الإلهام، اتخاذ القرارات الصعبة.

الاحتراف الحقيقي، في الرياضة والبزنس، هو أن يغيب الفرد ولا يغيب الأداء.

“لو غادر أهم 3 مدراء في شركتي غداً، هل ستستمر الشركة؟ هل سيبقى الأداء؟ أم ستدخل في أزمة؟”

المدرب أنشيلوتي يقول دائماً: “نحن لا نبحث عن بدائل للنجوم، نحن نبني أنظمة تصنع النجوم”.

فيرغسون، كان يقول: “مهمتي ليست فقط الفوز بالبطولات، بل إنتاج الجيل القادم من القادة”.

لا يوجد أي تخطيط للتعاقب “نحن عائلة، سنحل الأمور عند الحاجة”.

ريال مدريد لم ينتظر حتى يُصاب رونالدو ليفكر في البديل.

برشلونة لم تنتظر تقاعد تشافي لتبدأ بتدريب بيدري.

مانشستر سيتي لم تنتظر رحيل المدرب لتبني نظامها.

بعض الشركات تعامل خطط التعاقب كـ “سر حربي”، لا يعلم عنها إلا الإدارة العليا. هذا خطأ فادح.

أنت في مجموعة المواهب” وليس “أنت الخليفة المؤكد”… ركز على التطوير وليس الوعود.

 

الدرس الذي لم نتعلمه بعد

في ليلة حاسمة من دوري أبطال أوروبا، يُصاب نجم الفريق الأساسي في الدقائق الأولى. الجماهير تصاب بالذعر، لكن المدرب يبقى هادئاً. يُشير إلى دكة البدلاء، يدخل لاعب لم يكن اسمه معروفاً للكثيرين، وينتهي المباراة بفوز ساحق. ليس حظاً، بل نظاماً محكماً.

في الوقت نفسه، وعلى بعد آلاف الكيلومترات هنا، يُقدم مدير تنفيذي استقالته المفاجئة عندك في شركتك أو مؤسستك، الإدارة العليا تجتمع على عجل، الموظفون في حيرة، العمليات تتعثر، والعملاء يشعرون بالارتباك. المؤسسة تترنح، ليس لأن المدير كان عبقرياً لا يُعوّض، بل لأن أحداً لم يستعد لرحيله.

القصتان تبدوان مختلفتين، لكنهما تحملان نفس الدرس الجوهري: النجاح المستدام ليس في الاعتماد على الأفراد، بل في بناء أنظمة تتجاوز الأفراد.

في عالم الرياضة، الفريق الذي يواصل الفوز رغم غياب نجومه الأساسيين لا يعتمد على الحظ… بل على نظام. وفي عالم البزنس، القصة نفسها تتكرر حرفيًا. نجاح فريق رياضي يفقد لاعبيه بسبب الإصابة أو الاحتراف الخارجي يعني شيئاً واحداً: هناك خطة تعاقب، دكة بدلاء جاهزة، تدريب مسبق، وأدوار واضحة. المدرب لم يُفاجَأ، لأن السيناريو كان محسوباً.

نفس المنطق يجب أن يحكم عالم الأعمال. المؤسسة التي تتعثر عند مغادرة مدير أو خبير محوري هي مؤسسة مكشوفة تشغيلياً. أما المؤسسة التي تستمر في الأداء، فهي التي استثمرت مبكراً في: بناء الصف الثاني، نقل المعرفة، إعداد القيادات البديلة، وربط التعاقب بالاستراتيجية لا بالأسماء.  الاعتماد على “نجم واحد” خطر… سواء كان مهاجماً هدافاً أو مديراً خارقاً. الاحتراف الحقيقي، في الرياضة والبزنس، هو أن يغيب الفرد ولا يغيب الأداء. التعاقب الوظيفي عنصر بقاء وتنافسيةو ليس ملف HR تجميلي.

أولا: دكة البدلاء ليست للزينة

لماذا تنجح الأندية العالمية؟

عندما ننظر إلى أندية كبرى مثل ريال مدريد، برشلونة، مانشستر سيتي، أو بايرن ميونخ، نلاحظ ظاهرة مثيرة: هذه الأندية لا تتوقف عن الفوز بالبطولات حتى عندما يغيب نجومها الكبار. السر؟ نظام متكامل للتعاقب والإحلال.

مثال واقعي: ريال مدريد بعد رونالدو

عندما غادر كريستيانو رونالدو ريال مدريد عام 2018 بعد 9 سنوات من التألق وتسجيل 450 هدفاً، توقع الكثيرون انهيار الفريق. لكن ما حدث كان مختلفاً. الإدارة كانت قد بدأت منذ سنوات في بناء جيل جديد: كريم بنزيما تحول إلى قائد هجومي، فينيسيوس جونيور تطور تدريجياً، روديجر انضم للدفاع، وكامافينجا أصبح عماد الوسط. النتيجة؟ 5 ألقاب دوري أبطال أوروبا في 9 سنوات، 3 منها بعد رحيل رونالدو.  السر لم يكن في العثور على “رونالدو الجديد”، بل في بناء نظام لا يعتمد على فرد واحد. المدرب أنشيلوتي يقول دائماً: “نحن لا نبحث عن بدائل للنجوم، نحن نبني أنظمة تصنع النجوم”.

الدرس للشركات في القطاع الخاص.

كم شركة لديها “روناالدو” واحد يحمل المؤسسة على كتفيه؟ مدير مبيعات يمتلك جميع العلاقات مع العملاء الرئيسيين، مدير مالي يحتفظ بكل المعلومات الحرجة في رأسه، أو مدير عمليات بدونه لا يتحرك شيء؟

عندما يغادر هذا “النجم” – وسيغادر حتماً سواء بالاستقالة، التقاعد، المرض، أو الوفاة – تكتشف الشركة أنها كانت تدير مؤسسة بمخاطر تشغيلية هائلة.  الحل في بناء دكة بدلاء محلية مدربة ومستعدة وليس في “شراء نجم بديل” من السوق. كما أن ريال مدريد لم يشترِ “رونالدو آخر” من الخارج، بل استثمر في تطوير لاعبيه الشباب.

ثانيا: نقل المعرفة… أو خسارة 20 سنة من الخبرة

السيناريو المألوف في الشركات حاليا ( مثال افتراضي)

في شركة محلية متوسطة الحجم، يعمل المهندس رامبو منذ 25 عاماً. يعرف كل تفاصيل الأنظمة، جميع البروتوكولات، وعلاقات العمل مع الموردين والجهات الحكومية. لم يوثق رامبوأي شيء على الورق، “كل شيء في رأسي”، كما يقول دائماً.  في يوم ما، يُقرر أحمد التقاعد المبكر أو ينتقل لشركة أخرى. فجأة، تكتشف الشركة أنها فقدت 25 سنة من المعرفة المؤسسية في يوم واحد. المشاريع تتأخر، القرارات تصبح عشوائية، والأخطاء تتكرر.

كيف تتجنب الأندية الرياضية هذه الكارثة؟

نموذج أكاديمية لا ماسيا (برشلونة)

أكاديمية برشلونة الشهيرة “لا ماسيا” ليست فقط مركزاً لتدريب اللاعبين الصغار، بل هي نظام لنقل المعرفة والفلسفة. كل لاعب يتخرج من لا ماسيا يفهم “أسلوب برشلونة” في اللعب، القيم، والتكتيكات.  عندما يصعد لاعب شاب من الأكاديمية إلى الفريق الأول، لا يحتاج لشهور من التأقلم، لأنه تدرب على نفس الفلسفة طوال سنوات. تشافي هيرنانديز، إنييستا، بوسكيتس، بيدري… جميعهم خريجو نفس النظام.

التطبيق في الشركات: نظام التوثيق ونقل المعرفة

الشركات الناجحة لا تترك المعرفة حكراً على الأفراد، بل تؤسس أنظمة توثيق ونقل معرفة مؤسسية:

1- التوثيق الإجرائي (SOPs)

كل عملية حرجة يجب أن تكون موثقة في إجراءات تشغيل قياسية. ليس كتيبات مملة، بل أدلة عملية، فيديوهات تدريبية، وقوائم مرجعية.

2- برنامج الظل الوظيفي (Job Shadowing)

كما يتدرب اللاعب البديل مع النجم في التمارين، يجب أن يقضي الموظف الواعد وقتاً مع المدير الحالي، يشاهده، يتعلم منه، ويستعد للدور.

3- نظام الإرشاد (Mentorship)

في الأندية، اللاعبون المخضرمون يرشدون الشباب. في الشركات، يجب أن يكون لكل موهبة صاعدة مرشد من القيادات ينقل له الخبرات والحكمة المؤسسية.

4- مصفوفة المعرفة الحرجة (Critical Knowledge)

ضع قائمة بـ “المعارف الحرجة” في شركتك – تلك التي لو فُقدت ستؤثر بشدة على العمل. ثم تأكد من أن أكثر من شخص واحد يمتلكها.  المعرفة حين تبقى حبيسة رأس شخص واحد تتحول إلى “احتكار” وخطر. أما حين تُنقل وتُوثّق، تتحول إلى أصل من أصول الشركة.نقل المعرفة يحتاج إلى: توثيق الإجراءات والقرارات والخبرات في أدلة عمل واضحة وسهلة الوصول. تشجيع ثقافة “المشاركة” لا “الاحتكار”: الموظف المتميز يُكافأ عندما يعلّم غيره، لا عندما يخفي ما يعرفه. فعقد جلسات منتظمة لنقل الخبرة (Knowledge Sharing) بين الفرق والإدارات مهمة جدا.  المؤسسة التي لا توثق ولا تشارك المعرفة، تعيد اختراع العجلة في كل مرة يغيب فيها شخص محوري.

ثالثا: إعداد القيادات البديلة – استثمار طويل الأجل

الفخ الذي تقع فيه الشركات:

كثير من الشركات تتعامل مع التعاقب الوظيفي بعقلية “المطافي”: ننتظر حتى تشتعل النار (يستقيل المدير)، ثم نبحث عن حل سريع (نعين مديراً من الخارج بسرعة).

المشكلة في هذا النهج:

* التكلفة العالية : تعيين قيادي من الخارج يكلف 2-3 أضعاف الترقية الداخلية

* فترة التأقلم الطويل :المدير الجديد يحتاج 6-12 شهراً ليفهم الثقافة والعمليات

* احتمالية الفشل 40%: من التعيينات القيادية الخارجية تفشل خلال 18 شهراً

* تدمير معنويات الموظفين: إحضار مدير من الخارج يُحبط الموظفين الطموحين

كيف تبني الأندية الكبرى قياداتها؟

نموذج مانشستر يونايتد في عصر فيرغسون

السير أليكس فيرغسون، الأسطورة التي قادت مانشستر يونايتد لـ 38 بطولة، كان صانع قادة ولم يكن مجرد مدرب عظيم.  روي كين، ريان غيغز، غاري نيفيل، ستيف بروس… جميعهم أصبحوا مدربين ومديرين رياضيين ناجحين.

فيرغسون كان يُشرك قادته في القرارات، يمنحهم مسؤوليات تدريجية، ويُعدهم للقيادة. كان يقول: “مهمتي ليست فقط الفوز بالبطولات، بل إنتاج الجيل القادم من القادة”.

برنامج التعاقب القيادي في الشركات

الشركات العالمية الرائدة تستثمر ملايين الدولارات سنوياً في برامج تطوير القيادات. ليس دورات تدريبية عشوائية، بل مسارات مخططة بعناية:

المستوى الأول: تحديد المواهب  (Talent Identification)

* استخدام مصفوفة 9-Box لتقييم الأداء والإمكانات

* تحديد “المواهب عالية الإمكانات” (High Potentials)

* بناء خطط تطوير فردية لكل موهبة

المستوى الثاني: التطوير المتسارع (Fast Track & Accelerated Development)

* تناوب وظيفي استراتيجي (Rotations)

* مشاريع تطويرية  (Stretch Assignments)

* برامج قيادية مكثفة

* تدريب تنفيذي  (Executive Coaching)

المستوى الثالث: الإعداد للدور (Role Readiness)

* تكليف بمسؤوليات قيادية مؤقتة

* المشاركة في اجتماعات القيادة العليا

* الإشراف على مشاريع استراتيجية

* التقييم والتغذية الراجعة المستمرة

المستوى الرابع: الانتقال السلس  (Smooth Transition)

* فترة انتقال مع المدير الحالي

* خطة الأيام الـ 100 الأولى

* دعم ومتابعة من الإدارة العليا

* تقييم ما بعد الانتقال

رابعا: ربط التعاقب بالاستراتيجية لا بالأسماء

الخطأ الشائع: التخطيط حول الأشخاص

كثير من الشركات تخطط للتعاقب بهذا الشكل:

* “عندما يتقاعد رامبو، سنرقي كومار”

* “إذا استقالت سارة، سنعين نورة”

المشكلة في هذا النهج أنه يفترض أن المستقبل نسخة طبق الأصل من الحاضر، لكن الواقع مختلف:

* استراتيجيات الشركة تتغير

* أسواق العمل تتطور

* متطلبات المهارات تتبدل

* الأدوار نفسها تتحول

كيف تربط الأندية التعاقب بالاستراتيجية؟

مثال: تحول مانشستر سيتي

عندما استحوذت مجموعة أبوظبي المالية على مانشستر سيتي عام 2008، لم تكتفِ بشراء نجوم باهظين. بل وضعت استراتيجية طويلة الأمد:

1- الاستراتيجية: بناء أسلوب لعب هجومي سريع يعتمد على الاستحواذ

2- المدربون : تعيين مدربين يؤمنون بهذه الفلسفة (روبرتو مانشيني، ثم بيب غوارديولا)

3- اللاعبون: استقدام وتطوير لاعبين يناسبون هذا الأسلوب

4- الأكاديمية: تدريب الناشئين على نفس الفلسفة

5- التعاقب: كل مدرب أو لاعب جديد يجب أن يتماشى مع الاستراتيجية

النتيجة؟ 7 ألقاب دوري إنجليزي في 12 عاماً، ونادٍ يتطور باستمرار دون أن يفقد هويته.

التطبيق في الشركات: التخطيط الاستراتيجي للتعاقب

الخطوة 1: ابدأ من الاستراتيجية

قبل أن تخطط للتعاقب، اسأل:

* ما هي استراتيجيتنا للخمس سنوات القادمة؟

* ما هي الأسواق التي سندخلها؟

* ما هي التقنيات التي سنتبناها؟

* ما هي الكفاءات الحرجة التي سنحتاجها؟

الخطوة 2: حدد الأدوار الحرجة

ليست كل الأدوار متساوية. حدد المناصب الحرجة استراتيجياً – تلك التي لها تأثير كبير على تحقيق الأهداف.

الخطوة 3: صمم ملفات تعريف مستقبلية

بدلاً من تحديد “من سيخلف محمد”، حدد “ما هي المهارات والكفاءات المطلوبة لهذا المنصب في المستقبل؟”

قد تكتشف أن المدير القادم يحتاج لمهارات مختلفة تماماً عن المدير الحالي.

الخطوة 4: ابنِ مجموعة مواهب (Talent Pool)

بدلاً من تحديد “خليفة واحد”، ابنِ مجموعة من 3-5 مرشحين محتملين لكل منصب حرج. المنافسة الداخلية تطور الجميع.

الخطوة 5: راجع وحدّث باستمرار

خطط التعاقب ليست ثابتة. راجعها ربع سنوياً على الأقل:

* هل تغيرت الاستراتيجية؟

* هل ظهرت مواهب جديدة؟

* هل فقدنا مواهب متوقعة؟

* هل تغيرت متطلبات الأدوار؟

خامسا: التكلفة الحقيقية لغياب التخطيط

دراسة حالة: شركة عائلية

شركة تجارية عائلية عمرها 40 سنة، يديرها المؤسس (70 سنة) وابنه الأكبر (45 سنة). المؤسس يرفض التفكير في التقاعد، والابن يدير العمليات اليومية.

لا يوجد أي تخطيط للتعاقب. “نحن عائلة، سنحل الأمور عند الحاجة”، كان الرد الدائم.

في عام 2023، أُصيب المؤسس بأزمة صحية مفاجئة. العمل تجمد. الابن الأكبر وجد نفسه مسؤولاً عن قرارات استراتيجية لم يُعد لها. الأبناء الآخرون بدأوا بالمطالبة بأدوار لم يتدربوا عليها. البنوك قلقت على القروض. الموردون طالبوا بضمانات إضافية.

 

خلال 6 أشهر:

* انخفضت الإيرادات بـ 35%

* استقال 3 مديرين رئيسيين

* فُقدت عقود مع 2 من أكبر 5 عملاء

* تراكمت خسائر بـ 4 ملايين دينار

* القيمة السوقية للشركة تراجعت بنسبة 50%

التكلفة الحقيقية لم تكن مالية فقط، بل:

* تكلفة عاطفية: صراعات عائلية، قطيعة بين الأشقاء

* تكلفة سمعة: فقدان مكانة الشركة في السوق

* تكلفة فرص: مشاريع كانت ممكنة أصبحت مستحيلة

الأرقام لا تكذب: تكلفة عدم التخطيط للتعاقب

دراسات عالمية تُظهر:

التكاليف المباشرة

* تكلفة التوظيف الخارجي: 1.5-3 أضعاف الراتب السنوي للمنصب

* خسارة الإنتاجية: 20-40% خلال فترة الانتقال (6-12 شهر)

* فقدان المعرفة: ما يعادل 5-10 سنوات من الخبرة المؤسسية

التكاليف غير المباشرة

* انخفاض معنويات الموظفين: 30% زيادة في معدل الدوران

* فقدان العملاء: 15-25% من العملاء الرئيسيين في حالات التغيير المفاجئ

* تأخر المشاريع: متوسط 4-8 أشهر تأخير في المبادرات الاستراتيجية

العائد على الاستثمار في التخطيط للتعاقب

الشركات التي تستثمر في برامج تعاقب وظيفي فعالة تحقق:

*  50% تقليل في وقت شغل المناصب الحرجة.

*  40% زيادة في معدل نجاح القيادات المعينة داخلياً.

* 60% تقليل في تكاليف التوظيف القيادي.

* 25% تحسن في معدلات الاحتفاظ بالمواهب.

 

سادسا: أخطاء شائعة يجب تجنبها

الخطأ الأول: اعتبار التعاقب “مشروعاً” وليس “عملية

كثير من الشركات تطلق “مشروع التعاقب الوظيفي” بحماس، ثم ينتهي بعد 6 أشهر. التعاقب عملية مستمرة يجب أن تُدمج في النسيج الإداري اليومي ولا تعتبر مشروعاً له بداية ونهاية. المدير الذي لا يجهز بديلاً لنفسه لا يجب أن يُعتبر ناجحًا… مهما كانت أرقامه جيدة.

الخطأ الثاني: السرية المبالغ فيها

بعض الشركات تعامل خطط التعاقب كـ “سر حربي”، لا يعلم عنها إلا الإدارة العليا. هذا خطأ فادح. الموظفون الطموحون يريدون أن يعرفوا مساراتهم المهنية. السرية تخلق شائعات وتدمر الثقة.  الحل: كن شفافاً بشأن العملية (كيف نختار المواهب؟ كيف نطورهم؟) دون الكشف عن التفاصيل الفردية.

الخطأ الثالث: “الوعود الذهبية

لا تَعِد الموظف بترقية محددة في تاريخ محدد. التعاقب احتمالات وليس ضمانات. الموظف قد لا يتطور كما متوقع، أو قد تتغير احتياجات الشركة، أو قد يظهر مرشح أفضل.  الحل: اشرح أن “أنت في مجموعة المواهب” وليس “أنت الخليفة المؤكد”. ركز على التطوير وليس الوعود.

الخطأ الرابع: التركيز فقط على المهارات التقنية

في الرياضة، اللاعب الأمهر تقنياً ليس دائماً أفضل قائد. القيادة تحتاج لصفات أخرى: الذكاء العاطفي، التفكير الاستراتيجي، القدرة على الإلهام، اتخاذ القرارات الصعبة.  لا تقع في فخ ترقية “أفضل مهندس” ليصبح “مديراً فاشلاً”.

الخطأ الخامس: إهمال الأسرة في الشركات العائلية

في الشركات العائلية، أكبر خطأ هو افتراض أن الجيل القادم سيرغب أو سيكون قادراً على قيادة الشركة. بعض أبناء المؤسسين لديهم اهتمامات وقدرات مختلفة.  الحل:

* ناقش الأمر بصراحة مع الجيل القادم مبكراً (سن 18-20)

* من يريد الانضمام، يبدأ من الأسفل ويثبت جدارته

* من لا يريد، لا تُجبره – واجعل خطة بديلة

* فكّر في إدارة مهنية مع احتفاظ العائلة بالملكية

الخطأ السادس: التدريب دون تطبيق

إرسال المدير المحتمل لدورة تدريبية باهظة في لندن، ثم عودته لنفس المهام القديمة، يقتل الحماس ويُهدر الاستثمار.

الحل: كل تدريب يجب أن يعقبه تطبيق فوري: مشروع تطبيقي، مسؤولية إضافية، دور قيادي في مبادرة.

الخطأ السابع: الاستسلام بعد الفشل الأول

إذا فشل أول مرشح داخلي تمت ترقيته، لا تستنتج أن “التعيين الداخلي لا يعمل”. حتى الأندية الكبرى تُخطئ في اختيار اللاعبين أحياناً، لكنها تتعلم وتحسّن عمليتها.

 

سابعا: دور مجلس الإدارة والإدارة العليا

المسؤولية تبدأ من الأعلى

في الأندية الكبرى، مجلس الإدارة لا يترك التعاقب للمدرب فقط. إنهم يشرفون على:

* استراتيجية بناء الفريق طويلة الأمد

* الاستثمار في الأكاديميات والبنية التحتية

* مراقبة مؤشرات الأداء للاعبين الشباب

* تقييم المدرب بناءً على تطوير المواهب وليس فقط الفوز بالبطولات

نفس الشيء في الشركات. مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي مسؤولون شخصياً عن التعاقب الوظيفي.

ما يجب أن يفعله مجلس الإدارة

1- إدراج التعاقب في جدول الأعمال

* مراجعة ربع سنوية لخطط التعاقب للمناصب الحرجة

* تقييم سنوي لفعالية برامج تطوير القيادات

* الموافقة على ميزانيات التطوير والتدريب

2- تقييم الرئيس التنفيذي على التعاقب

* أضف “تطوير الخلفاء” كمعيار في تقييم أداء CEO

* اسأل: من هم الـ 3 مرشحين لخلافتك؟ أين هم في رحلة التطوير؟

* اربط مكافآته بمؤشرات تطوير القيادات

3- التخطيط لخلافة الرئيس التنفيذي

* هذه مسؤولية المجلس الشخصية، لا يمكن تفويضها

* يجب أن يكون هناك خطة واضحة:

– طوارئ: من يتولى إذا رحل CEO فجأة (حادث، وفاة، استقالة مفاجئة)؟

– متوسطة الأمد: من الخلفاء المحتملون خلال 2-3 سنوات؟

– طويلة الأمد: كيف نبني مجموعة مواهب لخلافة CEO خلال 5-10 سنوات؟

4- مقابلة المواهب عالية الإمكانات

* مرة سنوياً، يلتقي المجلس بـ “المواهب عالية الإمكانات”

* يتعرف عليهم، يقيّم قدراتهم، يفهم طموحاتهم

* يرسل رسالة أن “الشركة تستثمر فيكم”

ما يجب أن يفعله الرئيس التنفيذي

1- يكون قدوة

* أفضل CEO هو الذي يُعِد خلفاءه بنجاح

* بعض المدراء التنفيذيين يخافون من تطوير “منافسين”، هذا قصر نظر

* CEO العظيم يُقاس بمدى استمرار الشركة ونجاحها بعد رحيله

2- يشارك بنفسه

* لا تفوض التعاقب بالكامل لـ HR

* أنت من يحدد المناصب الحرجة

* أنت من يختار المواهب عالية الإمكانات

* أنت من يرشد ويطور القادة المستقبليين

3- يخلق ثقافة التطوير

* كافئ المدراء الذين يطورون فرقهم

* عاقب (أو لا تكافئ) من “يحتكر” المعرفة

* احتفِ بقصص الترقيات الداخلية الناجحة

* اجعل “تطوير المواهب” قيمة أساسية في الشركة

ثامنا: التعاقب في عصر التحول الرقمي

التحدي الجديد: سرعة التغيير

في الماضي، خطة التعاقب كانت تُوضع وتظل صالحة لـ 5-10 سنوات. اليوم، العالم يتغير بسرعة مذهلة:

* الوظائف نفسها تتغير أو تختفي

* مهارات جديدة مطلوبة كل عامين

* التقنيات الحديثة (AI Automation) تُعيد تشكيل الأدوار

* المواهب الشابة لديها توقعات مختلفة (مرونة، معنى، تطور سريع)

كيف تتكيف؟

1- من التخطيط الجامد إلى المرونة الديناميكية

* بدلاً من “خطة 5 سنوات ثابتة”، اعتمد “مراجعات ربع سنوية”

* بدلاً من “خليفة محدد”، ابنِ “مجموعة مواهب ديناميكية”

* كن مستعداً لتغيير الخطط بناءً على التغيرات الاستراتيجية

2- ركز على الكفاءات لا على الخبرة

* الخبرة في “ما كان” قد لا تكون مفيدة في “ما سيكون”

* الكفاءات المستقبلية المطلوبة:

– القدرة على التعلم السريع (Learning Agility)

– التفكير النقدي والإبداعي( Critical and Creative mindset)

– الذكاء الرقمي (Digital Fluency)

– المرونة والقدرة على التكيف( Adaptive and Flexible)

– التفكير الاستراتيجي رغم الغموض

3- استفد من التقنية

* منصات إدارة المواهب

* أدوات التقييم المتقدمة (Psychometric Tests)

* التعلم الرقمي

* تحليلات البيانات للتنبؤ بالمخاطر والفرص

4- اجذب جيل الألفية والجيل Z

* هم يريدون تطور سريع، لا انتظار 10 سنوات للترقية

* هم يريدون معنى، لا مجرد راتب

* هم يريدون مرونة، لا جمود بيروقراطي

* هم يريدون شفافية، لا غموض في المسارات المهنية

نصيحة:  صمم برامج تطوير سريعة (Fast-Track) للمواهب الاستثنائية. من يثبت جدارته، يُرقّى بسرعة، بغض النظر عن العمر أو الأقدمية.

الخاتمة: الوقت للعمل هو الآن

عزيزي القارئ، سواء كنت مؤسس شركة، عضو مجلس إدارة، رئيساً تنفيذياً، أو مدير موارد بشرية في شركة، أريدك أن تتذكر هذا:  النجاح المستدام لا يُبنى على أكتاف الأفراد، بل على متانة الأنظمة.  الأندية الرياضية العظيمة علمتنا أن الاستعداد يسبق النجاح.   تشبيه المؤسسة بالفريق الرياضي هي دعوة عملية وليس مجرد استعارة أدبية.  لنسأل داخل كل مؤسسة اليوم: من هم لاعبونا الأساسيون؟  من هم البدلاء الجاهزون فعلًا… لا على الورق.  ريال مدريد لم ينتظر حتى يُصاب رونالدو ليفكر في البديل. برشلونة لم تنتظر تقاعد تشافي لتبدأ بتدريب بيدري. مانشستر سيتي لم تنتظر رحيل المدرب لتبني نظامها.  شركتك تستحق نفس المعاملة. موظفوك، عملاؤك، مساهموك، وعائلتك (إن كانت شركة عائلية) يستحقون الاستقرار والاستمرارية.

سؤال الختام الذي يجب أن تطرحه على نفسك اليوم:

“لو غادر/غاب أهم 3 مدراء في شركتي غداً، هل ستستمر الشركة؟ هل سيبقى الأداء؟ أم ستدخل في أزمة؟”.  إذا كانت الإجابة تثير قلقك، فأنت تدير شركة بمخاطر تشغيلية خطرة.  الوقت للعمل هو الآن، وليس عندما تحدث الأزمة. كما يقول المثل الصيني: “أفضل وقت لزراعة شجرة كان قبل 20 سنة. ثاني أفضل وقت هو اليوم.”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى