مقالات

غسل الأموال… الجريمة التي لا تفوح رائحتها

"جريمة صامتة… لا تُرى بالعين لكن تهز الاقتصادات"

بقلم/ عمرو علاء

مسؤول مطابقة والتزام

حين يرتكب جرم ما ننتظر عادة دويا، أثراً، أو حتى رائحة تكشفه، لكن هناك جريمة لا ترى، لا تسمع، ولا تشم، ومع ذلك تترك وراءها آثاراَ اقتصادية مدمّرة.

إنها جريمة غسل الأموال… ذلك النشاط الخفي الذي يمر عبر الأنظمة المالية بملامح بريئة وملابس نظيفة، لكنه يحمل في داخله أموالًا قذرة ومصادر لا يريد أحد الإفصاح عنها.

غسل الأموال ليس مجرد تلاعب بالأرقام، بل هو أخطر أشكال الجريمة الاقتصادية المنظمة.

فهو يعيد تدوير المال الناتج عن أنشطة غير مشروعة ( كالرشوة، والفساد، والتهريب، والاتجار غير القانوني، والمخدرات ) ليبدو وكأنه دخل مشروع تمامًا.

وهنا تكمن الخطورة، حين ينجح المجرم في إخفاء مصدر المال، يتحوّل المال الأسود إلى أبيض على الورق، ويبدأ في تلويث النظام المالي من الداخل دون أن يشعر أحد.

ورغم أن الجريمة صامتة، إلا أن أثرها صاخب على الاقتصاد، فكل دينار مغسول هو رصاصة تطلق على نزاهة الأسواق، وكل معاملة مشبوهة تمر دون كشفها تضعف ثقة المستثمرين، وتشوه سمعة المؤسسات المالية التي يفترض أنها خط الدفاع الأول ،والأخطر أن غسل الأموال لا يضر البنوك فقط، بل يفتح الباب أمام تمويل الإرهاب والفساد وتآكل العدالة الاقتصادية.

تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن حجم الأموال المغسولة سنويًا حول العالم يتراوح بين 2% و5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، أي ما بين 800 مليار إلى 2 تريليون دولار سنويًا، وفي أوروبا وحدها، تنتقل عبر النظام المالي أموال مشبوهة تُقدّر بنحو 750 مليار دولار، أي ما يعادل 2.3% من الناتج المحلي الأوروبي، هذه الأرقام تكشف أن غسل الأموال ليس مجرد جريمة مالية، بل تهديد مباشر للاقتصادات الوطنية، فهو يضعف ثقة المستثمرين في النظام المالي، ويشجع على الفساد والتهرب الضريبي، ويشوه المنافسة بين الشركات المشروعة وغير المشروعة، كما أنه يربك السياسات النقدية للدول ويزيد من تصنيفات المخاطر المالية، ما يرفع تكلفة الاقتراض ويقلل من تدفق الاستثمارات.

وفي منطقتنا العربية، أظهرت تقارير معهد بازل للحوكمة أن بعض الدول ما زالت تواجه تحديات حقيقية في تطبيق أنظمة فعالة لمكافحة غسل الأموال، خاصة مع تطور الأساليب الحديثة مثل استخدام العملات الرقمية والشركات الوهمية.

في السنوات الأخيرة اتجهت الدول والجهات الرقابية حول العالم إلى تشديد غير مسبوق في الرقابة والعقوبات المرتبطة بغسل الأموال وتمويل الإرهاب، فمنذ عام 2019 حتى اليوم، تم فرض غرامات تتجاوز 20 مليار دولار أمريكي على مؤسسات مالية في الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا بسبب قصور في أنظمة الامتثال ومراقبة العمليات المشبوهة.

وكان من أبرزها الغرامة التي تجاوزت 2.9 مليار دولار على أحد البنوك و1.9 مليار دولار على بنك آخر بسبب تسهيل معاملات غير مشروعة.

كما ارتفعت الغرامات في عام 2024 وحده إلى أكثر من 3.2 مليار دولار عالميًا، معظمها على مؤسسات لم تلتزم بمتطلبات العناية الواجبة للعملاء (CDD) أو فشلت في الإبلاغ عن العمليات المشبوهة في الوقت المحدد.

هذه العقوبات لم تكن مجرد إجراءات مالية، بل رسائل صارمة من الجهات الرقابية العالمية بأن عصر التساهل انتهى، وأن المؤسسات التي تتغاضى عن مؤشرات غسل الأموال ستدفع الثمن ماليًا وسيؤثر على سمعتها سوقياً.

وقد أدت هذه الموجة من التشديد إلى تحسن واضح في نظم الامتثال الداخلية للمؤسسات المالية، وارتفاع مستوى التنسيق بين وحدات التحريات المالية في مختلف الدول، وتنامي ثقافة الالتزام داخل الشركات.

اليوم، لم يعد الامتثال خيارًا إداريا، بل خط الدفاع الأول عن الاقتصاد الوطني، ولم تعد الغرامات مجرد خسارة مالية، بل جرس إنذار يذكر الجميع أن المال غير النظيف لا يختفي، بل يترك أثرًا مهما كان خفيًا.

ولهذا، فإن الالتزام لم يعد مسؤولية إدارة المطابقة والالتزام وحدها، بل ثقافة مؤسسية تبدأ من مجلس الإدارة وتمتد إلى كل موظف داخل المؤسسة المالية.

إن مكافحة غسل الأموال ليست حربًا على المجرمين فقط، بل معركة من أجل حماية الاقتصاد والشفافية والثقة العامة.

فالمؤسسات التي تتعامل بجدية مع الحوكمة والامتثال لا تحمي نفسها فحسب، بل تُسهم في حماية اقتصاد بلدها واستقراره المالي.

 

في النهاية غسل الأموال جريمة لا تفوح رائحتها… لكنها إن تركت دون مواجهة، تخنق كل ما حولها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى