حينما تكذب الأرقام: لماذا يجب أن تكون الإحصاءات الحكومية مستقلة؟

د.محمد جميل الشبشيري
قد تعتقد أن الأرقام لا تكذب أبدًا، ولكن هل فكرت يومًا أن من يجمعها قد يفعل؟ الإحصائيات الحكومية هي أساس ثقتنا في حكومتنا، فهي تخبرنا أين نحن وإلى أين نتجه. لكن المشكلة تبدأ عندما يتدخل السياسيون في هذه الأرقام، فيحولونها من أداة للحقيقة إلى وسيلة للتضليل.
تذكرون حادثة إقالة الرئيس دونالد ترامب للمسؤولة عن بيانات التوظيف في أمريكا؟ تلك الخطوة كانت غريبة وغير مسبوقة، وأثارت قلقًا حقيقيًا. ففي يوم الجمعة، بعد ساعات من صدور تقرير للوظائف أظهر تباطؤًا حادًا في نمو التوظيف وتعديل الأرقام السابقة للأسوأ، قام ترامب بإقالة إريكا ماكنتارفر، مفوضة مكتب إحصاءات العمل (BLS). وقد كتب ترامب على حسابه في وسائل التواصل الاجتماعي أنه “وجه فريقه بإقالة المعينة سياسياً من قبل بايدن، فورًا”، متهمًا إياها، دون تقديم أدلة، بأنها “قامت بتسييس تقرير الوظائف”. ورغم أن ترامب برر قراره بأنه يريد استبدالها بشخص “أكثر كفاءة ومؤهلاً”، فإن خبراء الاقتصاد، بما فيهم رؤساء سابقون للمكتب نفسه، أدانوا هذه الخطوة ووصفوها بأنها “سابقة خطيرة” و”مسيئة للوكالة الإحصائية الموقرة”. وأكدوا أن هذا الإجراء يقوض الثقة في البيانات الاقتصادية الرسمية التي تعتبر حجر الزاوية لاتخاذ القرارات السليمة.
أهمية استقلالية الإحصاءات ومخاطر التدخل السياسي
أهمية استقلالية الإحصاءات لا يمكن المبالغة فيها. فبدونها، يصبح صانعو القرار مثل قبطان بلا بوصلة في بحر هائج. قراراتهم ستكون مبنية على أوهام، وليس على حقائق. وهذا لا يؤثر عليهم وحدهم، بل يمتد تأثيره إلى المستثمرين الذين يفضلون البيئات الشفافة، وإلى المواطنين الذين يفقدون ثقتهم في كل شيء. فالتلاعب بالإحصاءات لا يؤدي فقط إلى اتخاذ قرارات خاطئة، بل يقوض أيضًا الثقة العامة في المؤسسات الحكومية.
تُظهر التجارب الدولية أن التلاعب بالإحصاءات له عواقب اقتصادية كارثية:
* الأرجنتين: تلاعبت الحكومة ببيانات التضخم لتخفي المشاكل الاقتصادية، ففقد المستثمرون ثقتهم ولجأوا إلى مصادر غير رسمية.
* اليونان: كذبت الحكومات بشأن العجز المالي، مما تسبب في أزمة ديون ضخمة كادت أن تقضي على منطقة اليورو بأكملها.
* الصين: تضخّم الحكومات المحلية أرقام النمو لتحسين سمعتها، مما يجعل أرقام الناتج المحلي الإجمالي الكلية موضع شك.
الخلاصة: الحفاظ على الثقة
في النهاية، الأمر ليس مجرد أرقام، بل هو ثقة. عندما نفقد الثقة في الإحصائيات الرسمية، نفقد القدرة على فهم الواقع، ونصبح فريسة للشائعات. وهذا يضعف من قدرتنا على اتخاذ قرارات صحيحة، سواء كنا حكومات، أو مستثمرين، أو حتى مواطنين. لذلك، من الضروري حماية استقلالية الإحصائيين، لأنهم حراس الحقيقة في عالم اقتصادي معقد.