مقالات

النحاس: المعدن الحيوي في عالم متغير

 

يُعد النحاس (Copper) أحد الركائز الأساسية في الاقتصاد العالمي، لا سيما بفضل خصائصه الفريدة التي تجعله لا غنى عنه في العديد من الصناعات الحيوية. في الآونة الأخيرة، أثارت القرارات السياسية، مثل فرض إدارة ترامب لتعريفة جمركية بنسبة 50% على واردات منتجات النحاس، تساؤلات حول مستقبل سوق هذا المعدن الحيوي. يهدف هذا المقال إلى تحليل سوق النحاس في ضوء هذه القرارات، مع التركيز على تأثيرها على الأسعار، العرض والطلب العالمي، الأهمية المتزايدة للنحاس في مختلف الصناعات، ودوره المحوري في صناعة الذهب، وكيف يمكن أن تتأثر هذه الديناميكيات بالسياسات التجارية العالمية.

 

خصائص النحاس: أساس استخداماته المتعددة

يتميز النحاس بخصائص فريدة تجعله مثاليًا للعديد من التطبيقات. فهو معدن ذو لون بني محمر، يتمتع بمرونة عالية وقابلية للطرق والسحب، مما يسهل تشكيله في أسلاك وصفائح وأشكال مختلفة. لكن الأهم من ذلك هو موصليته الفائقة للكهرباء والحرارة، والتي تأتي في المرتبة الثانية بعد الفضة، مما يجعله الخيار الأول في الصناعات الكهربائية والإلكترونية. كما يتمتع النحاس بمقاومة ممتازة للتآكل، حيث تتشكل طبقة واقية (زنجار أخضر) على سطحه عند تعرضه للهواء، تحميه من المزيد من التآكل. هذه الخصائص مجتمعة هي التي فتحت الأبواب أمام استخداماته الواسعة عبر التاريخ وحتى يومنا هذا.

 

النحاس: عصب الصناعات الحديثة

تتنوع استخدامات النحاس بشكل كبير لتشمل قطاعات حيوية متعددة، مما يجعله عصب الصناعات الحديثة. في مجال الكهرباء والإلكترونيات، يُعد النحاس المكون الأساسي للأسلاك والكابلات الكهربائية، والمحولات، والمحركات، والدوائر المطبوعة في الأجهزة الإلكترونية مثل الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر. موصليته العالية تجعله لا غنى عنه في نقل الطاقة والبيانات بكفاءة، وهو ما يفسر الطلب المتزايد عليه مع التوسع في الرقمنة والتحول نحو الطاقة المتجددة والمركبات الكهربائية.

 

في قطاع البناء والتشييد، يُستخدم النحاس في أنابيب المياه وأنظمة التدفئة والتبريد، وفي تشييد الأسقف والديكورات الداخلية، بفضل مقاومته للتآكل وجماله الطبيعي. كما يدخل النحاس في صناعة السبائك المختلفة مثل البرونز والنحاس الأصفر، والتي تستخدم في صناعة العملات المعدنية، والمجوهرات، والأدوات الموسيقية، وقطع الغيار الصناعية.

 

ولم يقتصر دور النحاس على الصناعة فحسب، بل يمتد إلى مجال الصحة، حيث يُعد عنصرًا أساسيًا في جسم الإنسان، يدخل في تركيب العديد من الإنزيمات، ويدعم صحة العظام والأعصاب، ويساعد في امتصاص الحديد وتكوين الكولاجين. هذه الاستخدامات المتعددة تؤكد على أن النحاس ليس مجرد معدن، بل هو محرك أساسي للتقدم التكنولوجي والصناعي والصحي.

 

تأثير التعريفات على الأسعار والعرض والطلب العالمي

إن قرار فرض تعريفة جمركية بنسبة 50% على واردات منتجات النحاس الأمريكية، ورغم أنه يهدف إلى حماية الصناعة المحلية، إلا أن تأثيره على الأسعار والعرض والطلب العالمي معقد ومتعدد الأوجه. فمباشرة بعد الإعلان عن هذه التعريفة في يوليو 2025، شهد سعر النحاس في أمريكا الشمالية (COMEX) قفزة بنسبة 13% مقارنة بالسعر المرجعي العالمي (LME)، قبل أن يستقر الفارق عند حوالي 100 دولار للطن. هذا يشير إلى أن السوق الأمريكية ستتحمل تكلفة أعلى للنحاس المستورد، مما سيؤثر على تكاليف الإنتاج في قطاعات حيوية مثل الإلكترونيات، والمركبات الكهربائية، وقطاع البناء، ومن المتوقع أن يغذي التضخم.

 

على المدى القصير، قد لا يؤدي هذا القرار إلى زيادة فورية في الإنتاج الأمريكي بسبب العقبات الهيكلية القائمة، مثل بطء إجراءات الموافقة على المشاريع الجديدة، وانخفاض جودة الخام المحلي، وارتفاع تكاليف الإنتاج. هذا يعني أن الولايات المتحدة ستظل تعتمد على الواردات لتلبية جزء كبير من احتياجاتها، ولكن بتكلفة أعلى. هذا الوضع قد يؤدي إلى تفتيت السوق العالمية، حيث ترتفع الأسعار في الولايات المتحدة وتنخفض في مناطق أخرى، مما يخلق تشوهات في سلاسل التوريد العالمية. كما أن هذا قد يدفع الدول المنتجة والمستهلكة الكبرى إلى إعادة تقييم استراتيجياتها التجارية والبحث عن أسواق بديلة أو تعزيز الإنتاج المحلي، مما يؤثر على ديناميكيات العرض والطلب على المستوى العالمي.

 

النحاس ودوره في صناعة الذهب: ارتباط وتأثر بالسياسات التجارية

قد لا يبدو الارتباط بين النحاس والذهب واضحًا للوهلة الأولى، لكن النحاس يلعب دورًا حيويًا في صناعة الذهب، خاصة في صياغة المجوهرات. فالذهب الخالص، وهو ناعم جدًا، يحتاج إلى معادن أخرى لزيادة صلابته ومتانته وقابليته للتشكيل. يُعد النحاس أحد أهم هذه المعادن المضافة، حيث يمنح الذهب المتانة اللازمة لمقاومة الخدوش والتآكل، ويساهم في تحديد لون الذهب (مثل الذهب الوردي الذي يحتوي على نسبة أعلى من النحاس).

 

من ناحية أخرى، تختلف ديناميكيات سوق النحاس عن الذهب بشكل جوهري. فالنحاس يُعد مؤشرًا اقتصاديًا مهمًا نظرًا لاستخدامه الواسع في الصناعة، وبالتالي تتأثر أسعاره بشكل مباشر بالنمو الاقتصادي العالمي والسياسات التجارية. في المقابل، يُنظر إلى الذهب كأصل مالي وملاذ آمن في أوقات عدم اليقين الاقتصادي والسياسي، مما يجعله أقل تأثرًا بالتعريفات الجمركية المباشرة على المعادن الصناعية.

 

ومع ذلك، فإن السياسات التجارية الحمائية، مثل تعريفة ترامب على النحاس، يمكن أن تؤثر بشكل غير مباشر على سوق الذهب. فإذا أدت هذه التعريفات إلى تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي أو زيادة التضخم، فقد يزداد الطلب على الذهب كملاذ آمن، مما يرفع أسعاره. في المقابل، إذا أدت هذه السياسات إلى استقرار اقتصادي أو حلول تجارية، فقد ينخفض الطلب على الذهب. وبالتالي، فإن العلاقة بين النحاس والذهب معقدة، حيث يتأثر النحاس بشكل مباشر بالسياسات الصناعية والتجارية، بينما يتأثر الذهب بشكل أكبر بالاستقرار الاقتصادي والجيوسياسي، ولكن كلاهما يتفاعلان ضمن شبكة معقدة من العوامل الاقتصادية العالمية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى