العقارمقالات

نبض الإسكان في الكويت: رحلة بين الأرقام والأحلام

 (الجزء الثاني)

في الجزء الأول من رحلتنا، استكشفنا مفهوم “بدايات الإسكان” وأهميته كمؤشر اقتصادي حيوي، وتعمقنا في واقع الكويت من خلال المؤشرات البديلة والمشاريع الحكومية العملاقة. كما قمنا بمقارنة وضعنا مع الدول المتقدمة ودول الخليج، لنرى أين نقف في هذا السباق العالمي. الآن، دعونا نواصل هذه الرحلة، لنتحدث عن الدعم الحكومي السخي الذي يُقدم للمواطنين، والأثر الاقتصادي الكبير لقطاع الإسكان، وأخيرًا، التحديات التي تواجهنا والفرص التي تنتظرنا في بناء مستقبل إسكاني مستدام.

4- الدعم الحكومي: يد حانية تبني الأحلام

تُقدم دولة الكويت نموذجًا فريدًا في دعم مواطنيها للحصول على السكن، وهو نموذج يتجاوز مجرد توفير الأراضي والقروض الميسرة. إنه دعم يلامس تفاصيل البناء اليومية، ليشمل دعمًا مباشرًا لمواد البناء الأساسية. هذا الدعم ليس مجرد مساعدة مالية، بل هو يد حانية تمتد لتبني الأحلام وتخفف العبء عن كاهل الأسر، وتضمن في الوقت نفسه جودة ما يُبنى.

 

* قرض البناء المدعوم: تخيل أنك تبدأ رحلة بناء بيتك، وتجد قرضًا ميسرًا ينتظرك. تبلغ قيمة قرض البناء الذي يقدمه بنك الائتمان الكويتي 70,000 دينار كويتي. هذا القرض هو نقطة الانطلاق للكثيرين.

* دعم مواد البناء العيني: وهذا هو الجانب الأكثر تميزًا في الدعم الكويتي. فإلى جانب القرض، يُضاف دعم عيني لمواد البناء الأساسية بقيمة تقديرية تصل إلى 30,000 دينار كويتي. هذا يعني أن إجمالي الدعم السكني لكل مواطن مستحق يصل إلى حوالي 100,000 دينار كويتي. هذا الدعم لا يُقدم نقدًا، بل في شكل مواد بناء يتم توفيرها من شركات ومصانع معتمدة، مما يضمن جودتها.

 

أمثلة على كميات المواد المدعومة (تقريبية للمواطن الواحد):

لتتخيل حجم هذا الدعم، إليك بعض الأمثلة على المواد التي يمكن للمواطن الحصول عليها بأسعار مدعومة:

 

– الأسمنت: حوالي 50 طنًا. تخيل كمية الأسمنت هذه، إنها أساس كل بناء.

– الخرسانة الجاهزة: ما يقارب 300 متر مكعب. هذه هي المادة التي تُشكل أساسات وجدران بيتك.

– حديد التسليح: حوالي 25 طنًا. العمود الفقري لأي بناء قوي ومتين.

– الطابوق الجيري العازل: ما يعادل 8,000 طابوقة. هذه الطابوقة ليست مجرد حجر، بل هي جزء من جدران بيتك الذي سيحميك من حر الصيف وبرد الشتاء.

– وحدات التكييف: دعم لشراء ما يصل إلى 12 وحدة تكييف. في بلد مثل الكويت، التكييف ليس رفاهية، بل ضرورة.

 

هذا الدعم السخي يمثل حوالي 25-30% من إجمالي تكلفة بناء منزل حكومي نموذجي. إنه يقلل بشكل كبير من الأعباء المالية على الأسر، ويساعدها على تحقيق حلم امتلاك منزل دون الدخول في دوامة الديون المرتفعة. كما يساهم هذا البرنامج في دعم الصناعات المحلية لمواد البناء، مما يخلق دورة اقتصادية إيجابية داخل البلاد.

5- الأثر الاقتصادي: قطاع الإسكان.. محرك خفي للنمو

قد يظن البعض أن قطاع الإسكان يقتصر دوره على توفير السكن، لكن الحقيقة أعمق من ذلك بكثير. إنه محرك اقتصادي قوي، يعمل كقلب يضخ الحياة في شرايين الاقتصاد الوطني، ويساهم بشكل مباشر وغير مباشر في الناتج المحلي الإجمالي (GDP) وخلق فرص العمل:

 

* المساهمة في الناتج المحلي الإجمالي: تخيل أن كل طابوقة توضع، وكل كيس أسمنت يُستخدم، وكل قطعة حديد تُركب، تُضيف قيمة لاقتصادنا. يساهم قطاع البناء والتشييد بنسبة تتراوح بين 4% إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي للكويت. هذه النسبة قد تبدو صغيرة، لكنها أساسية في تنويع مصادر الدخل بعيدًا عن النفط.

* حجم سوق البناء السكني: هذا السوق ليس صغيرًا أبدًا. قُدّر حجم سوق البناء السكني في الكويت بحوالي 5.8 مليار دولار أمريكي في عام 2023. والأجمل أن التوقعات تشير إلى نمو مستمر ليصل إلى 7.9 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2028، بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 6.5%. هذه الأرقام تعني استثمارات ضخمة، ومشاريع مستمرة، ونموًا اقتصاديًا ملموسًا.

* خلق فرص العمل: عندما تبدأ المشاريع الإسكانية الكبرى، فإنها لا تبني المنازل فقط، بل تبني مستقبل آلاف الأسر. تساهم هذه المشاريع في خلق عشرات الآلاف من فرص العمل المباشرة (للمهندسين، والفنيين، وعمال البناء) وغير المباشرة (في الصناعات المغذية، وشركات النقل، والخدمات اللوجستية، وحتى في المطاعم والمقاهي المحيطة بمواقع العمل). إنها دورة حياة اقتصادية متكاملة.

 

باختصار، كل دينار يُنفق في قطاع الإسكان يُحدث تأثيرًا مضاعفًا في الاقتصاد. إنه يبدأ من مصانع المواد الخام، مرورًا بشركات المقاولات، وصولًا إلى محلات الأثاث والأجهزة الكهربائية والخدمات المنزلية. هذا القطاع ليس مجرد بناء جدران، بل هو بناء اقتصاد مزدهر.

6- التحديات والفرص: طريقنا نحو مستقبل إسكاني مستدام

رغم كل هذه الطموحات الكبيرة والأرقام الواعدة، فإن طريقنا نحو مستقبل إسكاني مستدام في الكويت ليس خاليًا من التحديات. لكن كل تحدٍ هو فرصة للنمو والتطور:

 

* الاعتماد على التمويل الحكومي: صحيح أن الدعم الحكومي رائع، لكن الاعتماد الكلي عليه يجعل مصير القطاع مرتبطًا بتقلبات أسعار النفط والوضع المالي للدولة. هذا قد يؤدي إلى تأخير المشاريع في فترات التقلبات الاقتصادية، وكأننا نضع كل بيضنا في سلة واحدة.

* طول فترة الانتظار: هذه هي القصة التي تلامس قلوب الكثيرين. لا تزال قوائم انتظار المواطنين للحصول على السكن طويلة، وهذا يخلق ضغطًا اجتماعيًا كبيرًا ويسهم في ارتفاع أسعار العقارات في السوق الخاص. إنها معاناة حقيقية للكثير من الأسر.

* البيروقراطية: الإجراءات الحكومية المطولة للحصول على التراخيص والموافقات تبطئ وتيرة تنفيذ المشاريع، وكأن هناك حواجز غير مرئية تعيق التقدم.

* محدودية دور القطاع الخاص: لا يزال دور المطورين العقاريين في بناء المشاريع السكنية للمواطنين محدودًا. هذا يقلل من الابتكار والتنافسية، ويجعلنا نعتمد بشكل كبير على الجهود الحكومية.

 

ولكن، كل تحدٍ يحمل في طياته فرصة. إليك بعض الفرص والتوصيات الاستراتيجية التي يمكن أن ترسم لنا طريقًا نحو مستقبل إسكاني أفضل:

 

1- تطوير مؤشرات عقارية رسمية: تخيل لو كان لدينا “عداد بدايات الإسكان” الخاص بنا، ومؤشرات أخرى دقيقة. هذا سيعزز الشفافية ويساعد المستثمرين على اتخاذ قرارات مستنيرة، ويجعل سوقنا أكثر جاذبية للعالم.

2- تسريع الشراكة مع القطاع الخاص: يجب أن نفتح الأبواب على مصراعيها للقطاع الخاص. وضع أطر قانونية وتشريعية واضحة وجذابة سيشجع المطورين العقاريين على الدخول في مشاريع الإسكان الحكومي، مما يسرع وتيرة البناء ويقدم حلولًا أكثر تنوعًا وابتكارًا.

3- رقمنة الإجراءات الحكومية: يجب أن نودع الأوراق والطوابير. إنشاء منصة إلكترونية موحدة لتراخيص البناء والموافقات يمكن أن يقلل بشكل كبير من الدورة المستندية ويسرّع بدء المشاريع، وكأننا نضغط زرًا سحريًا لإنجاز المعاملات.

4- تنويع الخيارات السكنية: ليس كل أسرة تحتاج إلى فيلا ضخمة. يجب أن نشجع بناء المجمعات السكنية المتكاملة والشقق العصرية التي تناسب احتياجات الأسر الكويتية الجديدة والشباب، لتخفيف الضغط على الأراضي وتوفير خيارات أكثر مرونة.

5- التحول نحو المدن الذكية والمستدامة: يجب أن نفكر في المستقبل. يجب أن يتزامن تطوير المشاريع السكنية مع إنشاء بنية تحتية متطورة تشمل التكنولوجيا الخضراء، والطاقة المتجددة، والخدمات الذكية، لضمان عدم تحول المدن الجديدة إلى مجرد ضواحٍ سكنية معزولة، بل إلى مجتمعات حيوية ومستدامة.

 

خاتمة: بناء وطن لا مجرد مساكن

إن قطاع الإسكان في الكويت يمر بمرحلة تحول حاسمة. فبينما تعكس المشاريع العملاقة طموحًا كبيرًا لتلبية الطلب المتزايد، فإن النجاح المستدام يعتمد على معالجة التحديات الهيكلية القائمة. إن تبني الشفافية من خلال المؤشرات الرسمية، وتمكين القطاع الخاص ليأخذ دوره الريادي، والتركيز على بناء مجتمعات مستدامة ومتكاملة، هي الركائز الأساسية التي ستضمن ليس فقط توفير “مأوى”، بل بناء “وطن” مزدهر للأجيال القادمة. إنها رحلة طويلة، لكنها تستحق كل جهد، لأنها تبني مستقبل الكويت، بيتًا بيتًا، وحلمًا حلمًا.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى