مقالات

الأثر المؤجل: عندما يتأخر صوت الطبول الاقتصادية

بعد أن استعرضنا في الجزء الأول من هذا المقال كيف خففت عوامل متعددة من وطأة الصدمة الأولية للرسوم الجمركية، وكيف أظهر الاقتصاد مرونة في التكيف، ننتقل الآن إلى الجانب الآخر من الصورة. فالاقتصاد، ككائن حي، يتفاعل مع التغيرات ببطء أحياناً، وتظهر آثار القرارات الكبيرة على المدى الطويل. إن الرسوم الجمركية، وإن كانت نسبتها الفعلية أقل من المعلنة، قد ارتفعت بشكل حاد، حيث بلغت 9.1% في يونيو، وهي أعلى نسبة منذ عام 1946، وأربعة أضعاف ما كانت عليه قبل عودة ترامب إلى الرئاسة . هذا الارتفاع الكبير لا يمكن أن يمر دون أن يترك بصمته، والتساؤل هنا: متى سيشعر به الجميع؟

1- الشركات تتحمل العبء… ولكن إلى متى؟

في البداية، تمكنت الشركات الأمريكية من عزل عملياتها وعملائها عن الآثار المباشرة للرسوم الجمركية. لقد امتصت هذه الشركات جزءاً كبيراً من التكاليف الإضافية، ربما لتجنب إزعاج العملاء أو فقدان حصتها في السوق. لكن هذا الوضع ليس مستداماً. فوفقاً لأحدث استطلاعات “توقعات الأعمال في تكساس” التي أجراها بنك الاحتياطي الفيدرالي في دالاس، أفاد 48.5% من الشركات بارتفاع تكاليفها، بينما 26.8% فقط رفعت أسعارها. والأكثر إثارة للقلق هو أن 40.0% من الشركات أبلغت عن تراجع في هوامش أرباحها . هذه الأرقام تكشف عن ضغط متزايد على الشركات، مما يشير إلى أن قدرتها على امتصاص التكاليف قد وصلت إلى حدودها.

إن الاقتصاد ليس مجرد مجموعة من الأرقام، بل هو شبكة معقدة من العلاقات البشرية. عندما ترتفع تكاليف الشركات، فإن ذلك يؤثر على قدرتها على الاستثمار، وتوظيف العمال، وتقديم المنتجات بأسعار تنافسية. وإذا استمرت هوامش الأرباح في التراجع، فقد تضطر الشركات إلى اتخاذ قرارات صعبة تؤثر على حياة الموظفين والمستهلكين على حد سواء.

2- التضخم: شبح يطارد المستهلك

حتى الآن، كان تأثير الرسوم الجمركية على أسعار المستهلك محدوداً. لكن التحليلات تشير إلى أن هذا الوضع لن يستمر طويلاً. فالرسوم الكبيرة تؤثر على أسعار المنتجين بسرعة نسبياً، لكنها قد تستغرق أكثر من ستة أشهر لتنعكس على أسعار المستهلكين . هذا يفسر جزئياً لماذا لم يرتفع مؤشر أسعار المستهلك (CPI) كثيراً حتى الآن، وهو ما استغله ترامب للضغط على مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي لخفض أسعار الفائدة. لكنها قد تكون مسألة وقت فقط قبل أن يشعر المستهلكون بوطأة هذه الرسوم في جيوبهم.

تخيل ربة منزل تجد أن أسعار السلع الأساسية التي تشتريها لأسرتها قد ارتفعت، أو شاباً يخطط لشراء سيارة ويجد أن أسعارها قد زادت بسبب الرسوم الجمركية على قطع الغيار المستوردة. هذه هي القصص الإنسانية التي تتشكل خلف الأرقام الاقتصادية. إن ارتفاع التضخم يعني تآكل القوة الشرائية للمواطنين، مما يؤثر على مستوى معيشتهم وقدرتهم على تلبية احتياجاتهم الأساسية.

3- عدم اليقين: عدو الاستثمار والنمو

لقد أدت الرسوم الجمركية المتقلبة إلى حالة من عدم اليقين في الأسواق. فالشركات لا تعرف ما إذا كانت الرسوم ستأتي أم ستذهب، مما يدفعها إلى اتخاذ موقف “الانتظار والترقب”. هذا التردد يؤثر سلباً على قرارات الاستثمار والتوسع، مما يعيق النمو الاقتصادي. فالمستثمرون يفضلون البيئات المستقرة التي يمكن التنبؤ بها، وحالة عدم اليقين تجعلهم أكثر حذراً.

4- توقعات المستهلك: مؤشر على المستقبل

على الرغم من رفع توقعات نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي وخفض توقعات التضخم قليلاً منذ الربيع، إلا أن المخاطر لا تزال قائمة. فمؤشرات ثقة المستهلك الأمريكي لا تزال تظهر توقعات تضخمية مرتفعة. ووفقاً لمؤشر جامعة ميشيغان لثقة المستهلك، يخطط 58% من المستهلكين لخفض إنفاقهم على السلع التي شهدت زيادات كبيرة في الأسعار، و13% يخططون للتوقف عن شرائها تماماً . إذا أصبح التضخم أكثر انتشاراً، فقد يتأثر الإنفاق الاستهلاكي الحقيقي، مما يؤثر سلباً على النمو الاقتصادي.

إن هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات جافة، بل هي انعكاس لمخاوف وتطلعات الأفراد. عندما يقرر المستهلكون خفض إنفاقهم، فإن ذلك يؤثر على الشركات التي تعتمد على هذا الإنفاق، مما قد يؤدي إلى تراجع في المبيعات، وبالتالي تراجع في الأرباح، وربما تسريح للعمال. إنها حلقة مترابطة، حيث تؤثر القرارات الاقتصادية على حياة الأفراد، وتؤثر سلوكيات الأفراد على مسار الاقتصاد ككل.

الخلاصة: دروس من رحلة الرسوم الجمركية

إن رحلة الرسوم الجمركية في عهد ترامب تقدم لنا دروساً قيمة حول تعقيدات الاقتصاد العالمي وتأثير السياسات التجارية على حياة الأفراد. لقد أظهرت هذه التجربة أن التأثيرات الاقتصادية ليست دائماً فورية أو مباشرة كما قد تبدو على الورق. فقدرة الشركات والمستهلكين على التكيف، ووجود الاستثناءات، وحتى البيروقراطية الحكومية، كلها عوامل يمكن أن تخفف من وطأة الصدمات الأولية.

ومع ذلك، فإن هذا لا يعني أن الرسوم الجمركية لا تحمل في طياتها مخاطر حقيقية. فالتأثيرات قد تكون مؤجلة، ولكنها حتمية. إن الضغط المتزايد على هوامش أرباح الشركات، واحتمال ارتفاع التضخم الذي يهدد القوة الشرائية للمستهلكين، وحالة عدم اليقين التي تعيق الاستثمار، كلها تحديات يجب التعامل معها بجدية. إن الاقتصاد ليس مجرد مجموعة من الأرقام، بل هو نسيج حي يتأثر ويتفاعل مع كل قرار سياسي واقتصادي.

في النهاية، يجب أن نتذكر أن السياسات التجارية ليست مجرد أدوات لتحقيق مكاسب اقتصادية بحتة، بل هي قرارات تؤثر على حياة الملايين من البشر. إن فهم هذه التأثيرات المتعددة الأوجه، من الجانب الاقتصادي البحت إلى الجانب الإنساني والاجتماعي، هو المفتاح لصياغة سياسات أكثر فعالية وعدالة، تخدم مصالح الجميع وتساهم في بناء مستقبل اقتصادي أكثر استقراراً وازدهاراً.

الجدوى القانونية للرسوم الجمركية: هل تتغير قواعد اللعبة؟

في تطور قد يغير مسار النقاش حول الرسوم الجمركية، أشارت المحكمة العليا الأمريكية إلى أنها ستستمع إلى الحجج المتعلقة بمدى قانونية بعض الرسوم الجمركية الأمريكية في نوفمبر. هذا يثير احتمال إعلان بعض الرسوم الجمركية غير قانونية خلال النصف الأول من العام المقبل .

إذا ما حكمت المحكمة بعدم قانونية بعض الرسوم، فمن المرجح أن يتم استبدالها برسوم جمركية جديدة. قد لا تكون هذه الرسوم الجديدة مطابقة للرسوم الحالية، وبالتالي يمكن أن تزيد أو تنخفض معدلات الرسوم، اعتماداً على البلد المصدر. والأهم من ذلك، أن أي شركة دفعت رسوماً جمركية بين أبريل 2025 وتاريخ صدور الحكم ستكون مؤهلة لاسترداد أموالها. وتشير وزيرة الخزانة الأمريكية، بيسنت، إلى أن نصف إيرادات الرسوم الجمركية يمكن إعادتها. هذا يعني إضافة ما بين 0.5% إلى 0.7% من الناتج المحلي الإجمالي إلى العجز المالي .

إن استرداد مدفوعات الرسوم الجمركية يُعد بمثابة خصم ضريبي. فالشركات الأمريكية التي دفعت هذه الرسوم ستحصل على دفعة نقدية غير متوقعة. ويُقدر أن حوالي ثلثي مدفوعات الرسوم الجمركية تأتي من الشركات الأمريكية الصغيرة . وكما حدث مع شيكات استرداد ضريبة الدخل في الماضي، فإن استرداد الرسوم الجمركية يمكن أن يشكل حافزاً مالياً للاقتصاد.

مع فرض رسوم جمركية جديدة ومختلفة كبديل، هناك احتمال لتأثير تضخمي غير متساوٍ. فإذا أدى تغيير سلطة الرسوم الجمركية إلى خفض بعض معدلات الرسوم، فإن أي أسعار أمريكية ارتفعت بسبب تلك الرسوم قد لا تنخفض مرة أخرى (“جمود الأسعار”). ومع ذلك، إذا أدى نظام رسوم جمركية جديد إلى زيادة بعض معدلات الرسوم، فقد تظهر مخاطر تضخمية جديدة . هذا يعني أن المشهد الاقتصادي قد يشهد تقلبات جديدة، مما يتطلب يقظة مستمرة من الشركات والمستهلكين على حد سواء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى