مقالات

السوق يهبط ويصعد بنا جميعًا… وليس بيد مضارب واحد

 

بقلم/ عبدالله أحمد النصرالله

يكثر في أحاديث السوق القول إن “فلان رفع السهم” أو “فلان أسقطه”. هذه صورة جذابة لكنها مضلِّلة. الحقيقة أن ديناميات السوق الكاملة — من سيولة، ومزاج مستثمرين، ودورة اقتصادية — هي التي تحدد الاتجاه. نعم، لاعب كبير قد يُسرِّع الحركة، لكنه لا يخلقها من العدم.

سوروس والحقيقة التي اعترف بها الجميع

خذوا مثلًا جورج سوروس، الرجل الذي أُلصق به انهيار الجنيه الإسترليني عام 1992. نعم، هو راهن ضد العملة وربح المليارات، لكن هل كان السبب؟ الوثائق الرسمية لبنك إنجلترا وصندوق النقد الدولي أوضحت أن الجنيه كان مربوطًا بمستوى لا يتماشى مع الأساسيات، وأن الانهيار “كان سيحدث على أي حال”. سوروس نفسه قالها بوضوح: هو فقط اقتنص الفرصة. والأهم أن الاقتصاديين البريطانيين اعترفوا لاحقًا بأن سوروس لم يكن السبب، بل مجرد لاعب في مشهد أكبر منه.

وفي أزمة آسيا 1997، كانت أصابع الاتهام كلها تتجه إليه. رئيس وزراء ماليزيا مهاتير محمد شنّ عليه حملة علنية، وألقى عليه اللوم أمام العالم. لكن بعد سنوات، صرّح مهاتير محمد أنه قبل بأن سوروس ليس مسؤولًا، رغم أنه هو نفسه من اتهمه أولًا. الأدبيات الاقتصادية وصفت ما حدث بدقة: مديونية قصيرة الأجل، ربط شبه ثابت للعملات، وتباطؤ في الصادرات. أي أن الانفجار كان مكتوبًا في صميم الهيكل، لا في قرار شخص.

الدرس من أمريكا: أسطورة اليد الخفية المنفردة

حتى في الأسواق الأكثر تطورًا، الأسطورة تتكرر. في 2021، تضاعف سهم GameStop بشكل جنوني. الكل بحث عن “فاعل خفي” يضغط الزر. لكن تقرير موظفي هيئة الأوراق المالية الأمريكية جاء صريحًا: لم يجدوا “يدًا خفية” منفردة. ما حدث كان ديناميكيات مشاركة واسعة، حوافز هيكلية، وتدفق أوامر من مستثمرين أفراد. مرة أخرى، السوق — وليس فردًا — هو الذي صنع الحدث.

حكمة الحشود… وعمى الحشود

هذا يذكرني بكتاب «حكمة الحشود» (The Wisdom of Crowds) للكاتب جيمس سوروويكي. الفكرة بسيطة لكنها عميقة: الجماعة أذكى من الفرد إذا توفرت شروط التنوع، والاستقلال، والشفافية. في الأسواق، حين تتوفر هذه الشروط، تتشكل الأسعار كأفضل تقدير جماعي للحقيقة. لكن حين يسيطر الخوف أو الطمع، يتحول الحشد إلى قطيع. وقتها لا يرى الناس الواقع إلا بعد أن يقع، ولا يستوعبون الحقيقة إلا بعد أن يهدأ الغبار.

شواهد من سوقنا

نحن في الكويت لسنا استثناء. قبل سنوات، سقطت شركتان كانتا من عمالقة الاستثمار: جلوبل والدار للاستثمار. انهيارهما لم يبدأ في الأخبار الرسمية أو البيانات الصحفية، بل في أسعار الأسهم. على مدى أشهر، لا أسابيع، بدأت الأسعار تتراجع تدريجيًا. لم يكن أحد يعرف التفاصيل، ولم يكن هناك خبر صريح. لكن السوق — كمجموع الحشود — كان يقرأ العلامات. كان هناك شيء غير متوازن، والسيولة كانت تُظهر ذلك. لم يكن هناك “شخص” يبيع ليُسقط السهم، بل السوق كله كان يعكس الخلل قبل أن ينكشف رسميًا.

وبالمثل، بنك الخليج. قبل أن تُعلن الخسائر الكبيرة في المشتقات عام 2008، كان السهم في تراجع مستمر لأشهر. كثيرون ظنوا أنها حركة مضارب. لكن اتضح لاحقًا أن الأسعار كانت تعكس قلقًا جماعيًا، وتقرأ مؤشرات لم تظهر بعد في الإعلام. لم يكن هناك من “يعرف السر” ويتلاعب، بل السوق بكامله كان يلتقط الإشارات.

 

بين الشماعة والفضل

ومما يزيد غرابة المشهد أن الناس تميل إلى البحث عن “شخص واحد” لتحميله المسؤولية عند الخسائر، وكأنها وسيلة للهروب من مواجهة الحقائق: من السيولة الضعيفة، أو الإفراط في المديونية، أو غياب الانضباط الاستثماري. في المقابل، حين يربحون ويصعد سهم في محافظهم، لا يقولون إن “السوق هو السبب” بل ينسبون الإنجاز إلى ذكائهم وبُعد نظرهم. هذه ازدواجية بشرية معروفة: نهرب من المسؤولية عند الخسارة، ونتبناها كاملة عند الربح.

الخلاصة

الأسواق ليست مسرحًا لفرد واحد. إنها مرآة لحشود بشرية، فيها الحكمة وفيها العمى. قد يربح البعض من التوقيت، لكن الاتجاهات الكبرى تصنعها السيولة والسياسات والاقتصاد والنفسيات الجماعية.

فإذا رأيت سهمًا يصعد أو ينهار، لا تنخدع بالقصة السهلة: “فلان رفع السهم” أو “فلان أسقطه”. الحقيقة أعمق: نحن — كمجموعة — من نصنع هذه الحركات، سواء أدركنا ذلك أو لم ندرك.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى