المعكرونة من المائدة إلى طاولة المفاوضات هل يفزع لـها الاتحاد الأوروبي؟

بقلم – ليما راشد الملا
حين تنتقل المكرونة من المائدة الإيطالية إلى مائدة المفاوضات الدولية، فذلك يعني أن الخلاف التجاري بلغ مرحلة “الرمزية الاقتصادية”. إيطاليا، التي تعد أكبر منتج ومصدّر للمكرونة في العالم، تواجه اليوم تحدياً حقيقياً بعد قرار واشنطن فرض رسوم جمركية بلغت 92٪ على وارداتها من هذا المنتج، ما جعل الحكومة الإيطالية تطلب تدخّل الاتحاد الأوروبي بشكل عاجل لحماية أحد أكثر قطاعاتها ربحية وحساسية.
القرار الأميركي يأتي ضمن موجة من السياسات الحمائية التي توسعت في السنوات الأخيرة، خاصة في عهد الإدارات التي ترى أن العجز التجاري الأميركي يستدعي “ردع” المنافسين حتى لو كانوا من الحلفاء. لكن بالنسبة لروما، القضية ليست مجرد معادلة جمارك، بل ملف وطني واستراتيجي يرتبط بالاقتصاد الزراعي والصناعات الغذائية، ويؤثر في آلاف الوظائف وسلاسل التوريد التي تمتد من الحقول إلى الموانئ.
اقتصاد المكرونة بالأرقام
تحتل إيطاليا المركز الأول عالمياً في إنتاج المكرونة، إذ تنتج أكثر من 4.3 ملايين طن سنوياً، أي ما يعادل ربع الإنتاج العالمي تقريباً. ومن هذا الإنتاج، يتم تصدير نحو 2.5 مليون طن إلى الخارج، أي 58٪ من إجمالي الإنتاج المحلي.
قيمة هذه الصادرات بلغت في عام 2024 حوالي 4.7 مليارات دولار، منها 788 مليون دولار فقط إلى الولايات المتحدة، التي تُعد ثاني أكبر مستورد بعد ألمانيا.
بهذا الحجم، يمثل السوق الأميركي نحو 17٪ من إجمالي صادرات المكرونة الإيطالية. ومع فرض الرسوم الجديدة، فإن أي انخفاض في الطلب الأميركي بنسبة 20٪ فقط، قد يعني خسائر مباشرة تُقدّر بـ 150 مليون دولار سنوياً.
القطاع الذي يوظّف أكثر من 100 ألف عامل بين المزارع والمصانع والمطاعم، يعتمد على سلسلة توريد متكاملة. ويشكّل القمح القاسي (Durum Wheat) العمود الفقري للصناعة، حيث تبلغ المساحة المزروعة به في إيطاليا نحو 1.2 مليون هكتار، بإنتاج سنوي يقارب 4 ملايين طن.
الآثار المحتملة على الاقتصاد الإيطالي
وفقاً لتقديرات كولديرِتي، أكبر منظمة زراعية في إيطاليا، فإن الرسوم الأميركية قد تُقلّص صادرات المكرونة إلى النصف خلال 12 شهراً إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق. ذلك يعني خسارة ما يقارب 2.3 مليار دولار من الإيرادات الإجمالية، وانخفاضاً في الناتج المحلي الإيطالي بنسبة 0.1٪ إلى 0.2٪ — وهي نسبة تبدو صغيرة لكنها مؤثرة في اقتصاد يعتمد على الصناعات الغذائية كمحرّك أساسي.
إضافة إلى ذلك، ستُضطر الشركات إلى إعادة توجيه صادراتها نحو أسواق بديلة في أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ما سيؤدي إلى انخفاض متوسط الأسعار بنسبة 8٪ لتعويض خسارة السوق الأميركية. هذا الانخفاض في الأسعار سيضغط على هوامش الأرباح، خاصة للشركات الصغيرة والمتوسطة التي تمثل 70٪ من مصانع المكرونة في إيطاليا.
من المستفيد ومن المتضرر؟
الولايات المتحدة تستورد سنوياً ما يقارب 1.1 مليون طن من المكرونة من مختلف الدول، وتشكل المنتجات الإيطالية منها أكثر من 70٪. الرسوم الجمركية الجديدة سترفع الأسعار للمستهلك الأميركي بنسبة قد تصل إلى 15٪، ما سيؤدي إلى انخفاض الطلب على المنتجات الإيطالية واتجاه السوق نحو بدائل أرخص من كندا وتركيا والمكسيك.
في المقابل، قد تحقق واشنطن مكاسب محدودة قصيرة الأجل من خلال زيادة الإيرادات الجمركية، تُقدّر بنحو 700 مليون دولار سنوياً، لكنها على المدى البعيد ستضرّ بعلاقاتها التجارية مع الاتحاد الأوروبي وتُضعف التنافسية في سوق الأغذية الراقية.
وفي الختام، المكرونة لم تعد طبقاً على المائدة الإيطالية بل رمزاً اقتصادياً عالمياً؛ فهي تدرّ أكثر من 12 مليار دولار سنوياً وتشكل 0.6٪ من الناتج المحلي. ومع فرض واشنطن رسوماً جمركية بنسبة 92٪، امتدت تداعيات الأزمة إلى أسواق القمح العالمية بارتفاع الأسعار 7٪ واستفادة دول منافسة مثل تركيا وكندا. أزمة المكرونة اليوم تكشف أن أبسط السلع يمكن أن تعيد رسم توازنات السياسة والاقتصاد العالمي. فهل ستنجح المكرونة الإيطالية في هضم هذه الأزمة… أم ستغلي أكثر على نار السياسة؟