مقالات

تحديات السيولة في البنوك الإسلامية: دروس من الانهيارات المصرفية العالمية وأهمية الإصلاحات النقدية

 

بقلم/ د. محمد جميل الشبشيري

Elshebshiry@outlook.com

 

شهد عام 2023 سلسلة من الانهيارات المصرفية في البنوك الأمريكية الكبرى، مما أثار قلقًا عالميًا بشأن إدارة السيولة في البنوك وكيفية تأثير السياسات النقدية على استقرار النظام المالي. من أبرز هذه البنوك التي انهارت كان بنك سيليكون فالي (SVB) وبنك سيجنتشر (Signature Bank)، حيث ارتبط انهيارها بشكل رئيسي بأزمات السيولة ورفع أسعار الفائدة. في هذا المقال، سنستعرض التحديات التي تواجهها البنوك الإسلامية في إدارة السيولة، وكيف يمكن الاستفادة من دروس هذه الانهيارات لتطوير أدوات سياسية نقدية جديدة تساعد على تحسين إدارة السيولة في القطاع المصرفي الإسلامي، مع التركيز على الواقع المصرفي في الكويت.

 

أسباب انهيار البنوك الأمريكية في 2023: دروس للقطاع المصرفي العالمي

 

في عام 2023، شهدنا انهيار العديد من البنوك الأمريكية الكبرى، مثل بنك سيليكون فالي وبنك سيجنتشر، نتيجة لتحديات مرتبطة بالسيولة. كانت هذه البنوك تعتمد بشكل كبير على السندات طويلة الأجل التي تراجعت قيمتها بشكل حاد بسبب رفع أسعار الفائدة من قبل البنك الفيدرالي الأمريكي. أدى هذا الانخفاض في قيمة الأصول إلى فجوة في السيولة، حيث فشلت هذه البنوك في تلبية طلبات السحب الكبيرة من عملائها، مما تسبب في انهيارها.

 

دروس من الانهيارات:

  1. تأثير السياسة النقدية:
  • سياسات رفع أسعار الفائدة بسرعة من قبل البنوك المركزية أدت إلى انخفاض قيمة الأصول مثل السندات طويلة الأجل، مما خلق مشاكل كبيرة في السيولة.
  1. هشاشة البنوك الصغيرة والمتوسطة:
  • البنوك التي تركز على قطاعات محددة مثل العملات الرقمية أو الشركات الناشئة كانت أكثر عرضة لهذه التقلبات الاقتصادية الحادة.
  1. أهمية إدارة السيولة:
  • الفشل في إدارة السيولة كان العامل الرئيس وراء انهيار هذه البنوك، حيث لم تستطع البنوك التي اعتمدت على النقد السائل بشكل غير كافٍ مواجهة أزمة السيولة الطارئة.

 

التحديات التي تواجه السيولة في البنوك الإسلامية

 

البنوك الإسلامية، رغم اختلافها عن البنوك التقليدية في عدة جوانب، تواجه تحديات مشابهة فيما يتعلق بإدارة السيولة. وفيما يلي أبرز التحديات التي تواجهها البنوك الإسلامية في ظل تقلبات أسعار الفائدة وارتفاع معدلات التضخم:

  1. شُح الأدوات المتوافقة مع احكام الشريعة:
  • تعتمد البنوك الإسلامية على أدوات مالية متوافقة مع احكام الشريعة مثل الصكوك والتورق، وهي أدوات قد لا توفر نفس المرونة التي توفرها الأدوات التقليدية مثل السندات.
  1. نقص التنوع في الاستثمارات قصيرة الأجل:
  • البنوك الإسلامية تفتقر إلى أدوات مالية قصيرة الأجل يمكن استخدامها بسرعة في حالات الأزمات المالية. مع ارتفاع أسعار الفائدة، تصبح هذه الأدوات أكثر عرضة للتقلبات، مما يهدد استقرار السيولة.
  1. الاعتماد على الحسابات الجارية:
  • تلجأ بعض البنوك الإسلامية إلى الحسابات الجارية كحل مؤقت لزيادة السيولة، ولكن هذه الأدوات غير فعّالة في الأوقات الحرجة.
  1. عدم وجود عناصر لنظام مصرفي إسلامي متكامل:
  • نقص عدد المشاركين في السوق: يفتقر النظام المصرفي الإسلامي إلى عدد كافٍ من المشاركين في السوق، مما يؤدي إلى قلة العمق والتنوع في السوق.
  • قلة الأدوات المتوافقة مع احكام الشريعة: تفتقر البنوك الإسلامية إلى مجموعة متنوعة من الأدوات المالية، خصوصًا أدوات تمويل قصيرة الأجل التي تتفق مع أحكام احكام الشريعة الإسلامية. هذا النقص يعوق قدرة البنوك على إدارة السيولة بشكل فعال في الأوقات التي تتطلب مرونة سريعة.
  • تطوير سوق ما بين البنوك الإسلامية: السوق بين البنوك الإسلامية لا يزال مغلقًا أمام البنوك الإسلامية بالشكل التقليدي الحالي. يعتمد هذا السوق في الغالب على الإقراض والاقتراض وبيع الديون والمشتقات، وهي أدوات يمتنع البنك الإسلامي عن التعامل بها نظرًا لاحتوائها على الفوائد المحرمة شرعًا، مما يجعل من الصعب تفعيل سوق فعال لزيادة السيولة.

 

البحث عن أدوات جديدة للسياسة النقدية

 

مع استمرار تعقيد المشهد الاقتصادي العالمي، تبرز الحاجة إلى أدوات نقدية مبتكرة. وقد أدت سياسات البنوك المركزية الكبرى في الاقتصادات المتقدمة إلى عواقب سلبية، وبالتالي أصبح من الضروري إصلاحها. يشكك العديد من الاقتصاديين وخبراء صندوق النقد الدولي في موثوقية أداة سعر الفائدة كأداة رئيسية للسياسة النقدية، حيث أصبحت غير فعالة وغير كافية للتحكم في كمية النقود والطلب عليها. وقد أدى الإفراط في طبع النقود دون غطاء إلى معدلات تضخمية جامحة في بعض البلدان.

 

المطلوب: استحداث أدوات جديدة

  • مؤشرات الربح: بدلاً من الاعتماد على سعر الفائدة كأداة رئيسية للسياسة النقدية، يمكن للبنوك المركزية أن تعتمد على مؤشرات الربح لتحديد معدلات الفائدة. مؤشرات الربح تتعلق بالنشاط الاقتصادي الحقيقي وتعكس الربحية بناءً على إنتاج الشركات ونشاطها الفعلي. هذا يعكس الواقع الاقتصادي بشكل أدق ويساهم في تحفيز القطاعات الإنتاجية بدلاً من الاعتماد على تكلفة الاقتراض.
  • البنوك المركزية ومؤشرات الربح: من خلال استخدام مؤشرات الربح، يمكن للبنوك المركزية أن تحفز القطاعات الإنتاجية وتقلل من المخاطر المرتبطة بتقلبات السوق، حيث أن الربح يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالإنتاج الفعلي وليس فقط بتكاليف الاقتراض.

 

التجارب المصرفية للبنوك المركزية ومؤشرات الربح

 

على الرغم من أن العديد من البنوك المركزية حول العالم تعتمد على أدوات السياسة النقدية التقليدية مثل رفع أسعار الفائدة لضبط السيولة، هناك تجارب ملحوظة تسعى إلى استحداث مؤشرات أكثر ابتكارًا ومرونة للتفاعل مع التغيرات الاقتصادية. من أبرز هذه التجارب مشروع البنك الإسلامي للتنمية، حيث تم تشكيل فريق عمل لدراسة إمكانية استحداث مؤشر للربح بين البنوك الإسلامية يعتمد على القطاعات الاقتصادية الحقيقية. هذا المؤشر يمكن أن يساعد في إدارة السيولة بشكل أكثر فاعلية، خاصة في الأسواق التي تعتمد على الأدوات المالية الإسلامية.

 

في إطار هذا السياق، وكالة رويترز أصدرت مؤشرًا بناءً على نتائج اللجنة التي تم تشكيلها في البنك الإسلامي للتنمية، وكان لي شرف عضويتها في وقت سابق. تم في إطار هذه اللجنة استحداث مؤشر للربح مكون من سلة من 16 بنكًا إسلاميًا، يهدف إلى قياس الربحية بناءً على الأنشطة الاقتصادية الحقيقية التي تقوم بها هذه البنوك، مما يسهم في تحقيق استقرار السيولة وتوجيه الاستثمارات بشكل أفضل. رغم أهمية هذا المؤشر، لم يجد المؤشر الرعاية والاهتمام الكافي من قبل البنوك المركزية والبنوك الإسلامية. من بين المشاكل الرئيسية التي واجهت هذا المؤشر كان عدم الترويج له بشكل كافٍ، فضلاً عن إضافة مؤشرات من بنوك تقليدية إلى سلة المؤشر، مما أفقده بريقه الأصلي.

 

التوصيات الإصلاحية لتحسين السيولة في البنوك الإسلامية

 

من أجل تحسين إدارة السيولة في البنوك الإسلامية، إليك عدة توصيات إصلاحية:

  1. تنويع الأدوات المالية:
  • يجب على البنوك الإسلامية تطوير أدوات مالية جديدة مثل الصكوك قصيرة الأجل لتحسين مرونتها في مواجهة الأزمات.
  1. تطبيق مؤشرات الربح:
  • يجب أن تعمل البنوك المركزية على تطوير مؤشرات لربحية القطاعات الاقتصادية المختلفة مثل الصناعة والزراعة، لتقييم الأداء الاقتصادي العام واتخاذ القرارات النقدية بناءً على هذه المؤشرات.
  1. تعزيز الشراكة بين البنوك والبنوك الإسلامية:
  • يمكن لنموذج المشاركة والمضاربة أن يعزز التعاون بين البنوك والشركات والبنوك المركزية ويسهم في تقليل المخاطر المالية وزيادة الاستثمارات. كما يمكن إنشاء صناديق استثمارية بقيادة البنك المركزي لإدارة حالات الفائض والعجز في البنوك الإسلامية، مما يسهم في تحسين استقرار السيولة وزيادة مرونة النظام المصرفي الإسلامي.

 

دور التكنولوجيا المالية في تحسين إدارة السيولة

 

التكنولوجيا المالية (FinTech) تلعب دورًا حيويًا في تحسين إدارة السيولة في البنوك الإسلامية. يمكن استخدام التقنيات الحديثة مثل البلوكتشين والذكاء الاصطناعي لتحسين الشفافية وتقليل تكاليف المعاملات بين البنوك. كما أن العملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDCs) تمثل أداة واعدة يمكن أن تساهم في تحسين تتبع حركة الأموال بشكل أكثر دقة، مما يساعد البنوك المركزية في مراقبة السيولة بين البنوك الإسلامية بشكل فعال. من خلال استخدام البلوكتشين، يمكن تقليل الوقت والتكاليف المرتبطة بالمعاملات المالية بين البنوك، مما يسهل التعاملات بين البنوك الإسلامية ويحسن من سيولة السوق بشكل عام.

 

كما يمكن للبنوك الإسلامية الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات المالية لتوقع تقلبات السيولة بشكل أكثر دقة، مما يساعد في اتخاذ قرارات أفضل بشأن تخصيص الأموال في أدوات مالية متوافقة مع الشريعة. التكنولوجيا الحديثة يمكن أيضًا أن تسهم في تسريع العمليات في سوق ما بين البنوك الإسلامية، مما يعزز كفاءتها ويدعم استدامتها المالية.

 

الواقع المصرفي في الكويت والتحديات المتعلقة بالسيولة

 

في الكويت، نجد أن البنوك الإسلامية تواجه تحديات مشابهة لنظيراتها العالمية، لكنها تتمتع بتنظيم رقابي قوي يساعد في إدارة السيولة. كما تساهم الأنظمة الرقابية مثل معايير بازل 3 في تحسين قدرة البنوك على التعامل مع تقلبات السيولة.

 

مؤشرات السيولة في الكويت:

يشير تقرير الاستقرار المالي الصادر عن بنك الكويت المركزي الي السياق ذاته، فقد وضع بنك الكويت المركزي إطارا تنظيمياا شاملا للسيولة يحتوي على خمس نسب رئيسية هي: نسبة تغطية السيولة، نسبة صافي التمويل المستقر، نسبة السيولة الرقابية، نسب السيولة وفقا سلم الاستحقاقات، والحد  الأقصى المتاح للإقراض، والذي يماثل إلى حد ما نسبة القروض إلى الودائع، ويطبق بنك الكويت المركزي هذه النسب على البنوك المحلية، التقليدية والإسلامية، بهدف تحصينها ضد الصدمات والحد من عدم مواءمة استحقاقات الأصول والمطلوبات وتوفير مصادر أموال مستقرة. وفي حين قد تذهب بعض الآراء إلى الاعتقاد بأن تطبيق خمس نسب مختلفة للسيولة يفرض مزيدا من الأعباء على مستوى الرقابة والالتزام، إلا أن تقييم بنك الكويت المركزي المتواصل لإطار العمل يثبت فاعليته باستمرار، فتلك النسب تتكامل فيما بينها، فيغطي بعضها آفاقا قصيرة الأجل، وتخدم الأخرى آفاقا أطول، كما أنها تختلف في طريقة احتسابها، فمنها ما يفترض أوضاعا ضاغطة، ومنها ما يُحتسب مباشرة دون أي فرضيات.

 

  • وفقًا للبيانات الحالية لعام 2023، حققت البنوك الإسلامية في الكويت نسب تغطية سيولة تصل إلى 223.97%، مما يدل على قوة السيولة في البنوك الإسلامية مقارنة بالبنوك التقليدية التي سجلت 258.03%.
  • نسبة صافي التمويل المستقر في البنوك الإسلامية بلغت 93%، وهو ما يعكس استقرارًا جيدًا في التمويل طويل الأجل مقارنة بالبنوك التقليدية.

وقد أثبتت البنوك الإسلامية المحلية قدرتها على الالتزام بمتطلبات النسب المذكورة، مع وجود مصدات مريحة، وهذه الارقام تثبت كفاءة البنوك الإسلامية في الكويت وتلبيتها لمتطلبات السيولة إلى جانب نظيراتها التقليدية

واكد بنك الكويت المركزي ان هذه الوفرة من السيولة الفعلية لدى البنوك الإسلامية لم تأت على حساب الربحية، حيث تظهر الأرقام أن ما نسبته %80  من الأصول السائلة عالية الجودة مدرة للربح، وهذه الأصول تتشكل في الغالب من أدوات بنك الكويت المركزي لإدارة السيولة، والصكوك الصادرة عن البنك الإسلامي للتنمية، والمؤسسة الإسلامية العالمية لإدارة السيولة والمؤسسات السيادية في دول مجلس التعاون الخليجي لدول الخليج العربية.

 

الخاتمة

 

في الختام، من الواضح أن إدارة السيولة تعد من التحديات الكبرى التي تواجه البنوك الإسلامية في ظل التقلبات الاقتصادية العالمية وارتفاع أسعار الفائدة. ورغم التحديات، هناك فرص كبيرة لتحسين إدارة السيولة من خلال الابتكار في أدوات السياسة النقدية، مثل مؤشرات الربح، وتطوير أدوات مالية جديدة مثل الصكوك قصيرة الأجل. إن تبني هذه الأدوات يساهم في خلق أنظمة مالية أكثر استدامة، ويعزز قدرة البنوك الإسلامية على إدارة السيولة وتحقيق استقرار النظام المالي في الأوقات الحرجة.

 

إن تطوير سوق ما بين البنوك الإسلامية وإنشاء أدوات متوافقة مع احكام احكام الشريعة المالية مثل مؤشرات الربح والصكوك قصيرة الأجل الصادرة عن البنوك الإسلامية او صناديق الاستثمار المشتركة او الصكوك سيسهم بشكل مباشر في تحسين مرونة النظام المصرفي الإسلامي. كما أن التعاون بين البنوك الإسلامية والبنك المركزي والمؤسسة الإسلامية العالمية لإدارة السيولة والبنك الإسلامي للتنمية من خلال أدوات مثل صناديق الاستثمار القيادية قد يكون هو الحل المثالي لإدارة حالات الفائض والعجز، مما يسهم في استدامة السيولة ومرونة النظام المصرفي.

 

علاوة على ذلك، إن تكنولوجيا البلوكتشين والذكاء الاصطناعي بالإضافة إلى استخدام العملات الرقمية للبنوك المركزية يمكن أن يلعب دورًا حاسمًا في تحسين تتبع السيولة بين البنوك الإسلامية، مما يسهم في تحقيق استقرار مالي أكبر. في هذا الإطار، سيكون من الضروري أن تواصل البنوك الإسلامية تحديث وتطوير أدواتها الرقمية بما يتماشى مع الاتجاهات العالمية لتقديم خدمات مالية أكثر شفافية وكفاءة.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى