مقالات

صناعة الثقة في سوق المال: الاستثمار الحديث بين فقه الغرر وقضاء التمييز

 

بقلم المحامي هشام الفهد

مقدمة: المال عصب الحياة وشرط العمران

 

لقد أجمع الفقهاء على أن المال عصب الحياة، وشرط العمران، ولقد حثّت الشريعة الغراء على تنميته وتثميره بالسبل المشروعة، فكان الاستثمار هو الجسر الذي تعبر عليه الأموال من حالة الكنز إلى حالة الإنتاج والبركة. وفي عصرنا هذا، الذي تسارعت فيه خطى التقنية، ظهرت صور جديدة للاستثمار، لم تكن معهودة لأسلافنا، فصارت الأموال تُدار عبر منصات رقمية، وتُستثمر في أصول افتراضية، وتُعقد لها عقود مركبة، مما أوجب على أهل الفقه والقانون أن يُعملوا النظر في هذه المستجدات.

وفي دولة الكويت، التي جعلت من العدل أساساً لحكمها، كان لزاماً على المشرع والقاضي أن يضعا ميزاناً دقيقاً يزن هذه المعاملات، فيحفظ للمستثمر حقه، ويُحصّن السوق من غوائل الغش والغرر، الذي هو من أشد ما نهت عنه الشريعة في العقود.

فقه الغرر في ميزان الاستثمار الحديث:

إن جوهر الاستثمار الحديث، خاصة في مجالات التكنولوجيا المالية يكمن في سرعة المعاملة وتعقيد الأداة. ولقد كان الفقه الإسلامي سبّاقاً في وضع قاعدة تحريم الغرر، أي الجهالة المفضية إلى النزاع. فإذا كان الاستثمار التقليدي يحيط به قدر معلوم من المخاطرة، فإن الاستثمار الحديث قد يكتنفه قدر من الجهالة في حقيقة الأصل أو آلية التداول، مما يوجب تدخل المشرع لرفع هذا الغرر.

وفي هذا السياق، تبرز أهمية الإطار القانوني الذي تضعه هيئة أسواق المال والبنك المركزي في الكويت، لضبط أدوات التمويل والاستثمار الحديثة، خاصة تلك التي تُقدمها شركات التكنولوجيا المالية عبر واجهات برمجية متقدمة ومنصات رقمية. إن هذه التشريعات تسعى إلى تحويل الجهالة (الغرر) إلى مخاطرة محسوبة ومفصح عنها، وهو ما يُعد تطبيقاً عصرياً لمبدأ الشفافية الفقهي.

قضاء التمييز.. حارس العقود ودرع المستثمر

إن الثقة في السوق لا تقوم إلا بوجود قضاء عادل ونافذ، يضمن تنفيذ العقود ويحسم النزاعات. ولقد كان لمحكمة التمييز الكويتية، بصفتها الهيئة العليا التي ترسي المبادئ القانونية، دور جليل في حماية الاستثمار، خاصة في المنازعات التي تنشأ عن العقود المالية المعقدة.

 

وقائع قضائية من محكمة التمييز: إرساء مبدأ الثقة في العقود

لقد أكدت محكمة التمييز في اجتهاداتها الحديثة (ومنها ما صدر في طعون تجارية حديثة) على مبدأين أساسيين هما صمام أمان للمستثمر:

1- حجية شرط التحكيم: لقد أرست المحكمة مبدأً راسخاً بأن شرط التحكيم في عقود الاستثمار هو اتفاق ملزم، ويجب على القضاء أن يمتنع عن نظر النزاع إذا كان هناك اتفاق صحيح على التحكيم. وهذا المبدأ يعزز ثقة المستثمرين، خاصة الأجانب، في سرعة الفصل في منازعاتهم بعيداً عن طول أمد التقاضي العادي، وهو ما يواكب متطلبات الاستثمار الدولي الحديث.

2- الوفاء بالالتزامات المالية: وفي قضية أخرى حديثة، ألزمت المحكمة إحدى الشركات الاستثمارية الكبرى بدفع مبالغ طائلة (كحكم صادر في طعن تجاري حديث) لصالح شركة أخرى، مؤكدة على أن الالتزام التعاقدي هو شريعة المتعاقدين، وأن القضاء لن يتوانى عن حماية حقوق الدائنين والمستثمرين من أي مماطلة أو تهرب، حتى لو كانت الخسارة قد لحقت بالشركة المدينة. وهذا الاجتهاد هو بمثابة سيف العدل الذي يقطع دابر التلاعب ويحفظ هيبة العقود.

سبيل الرشاد في الاستثمار الحديث

يا أيها المستثمر، ويا صاحب الشركة، إن الاستثمار الحديث هو بحر خضم، فاجعل من هذه النصائح سفينة نجاة لك:

1– العناية الواجبة: لا تُقدم على استثمار جديد، خاصة في الأصول الرقمية أو المنصات الحديثة، إلا بعد بذل عناية الرجل الحريص في دراسة الأصل والجهة التي تديره، فإن القضاء لا يحمي المغفل.

2- وضوح العقد: اجعل عقدك بيّناً لا غرر فيه، واحرص على أن يتضمن آلية واضحة لفض النزاعات، كشرط التحكيم، فإن وضوح العقد هو أول درجات الأمان.

3- مواكبة التقنية والقانون: استخدم أحدث أدوات التكنولوجيا المالية التي تضمن الشفافية الرقمية في تتبع استثماراتك، وفي الوقت ذاته، كن على علم دائم بالتحديثات القانونية الصادرة عن الجهات الرقابية، فإن القانون هو الإطار الذي يحمي استثمارك.

4- الاستشارة الفقهية والقانونية: لا تستقل برأيك في العقود المركبة، بل استشر أهل الذكر من الفقهاء والقانونيين، فإن الاستشارة هي حصن المستثمر من الوقوع في المحظور أو التعرض للخسارة.

 

وخلاصة الموضوع: إن الاستثمار في هذا العصر هو سباق بين التقنية التي تُبدع الأدوات، والقانون الذي يضبطها، والقضاء الذي يحميها. فليكن المستثمر على بصيرة من أمره، وليعلم أن الثقة في سوق المال تُصنع بالعدل والوضوح، وأن قضاء التمييز في الكويت هو المرجع الأخير الذي يضمن أن تبقى الأموال في مسارها الصحيح، بعيداً عن الغرر والجهالة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى