“تمويل السلاح الصامت”: عندما تصبح الفواتير التجارية قنابل موقوتة!
بقلم : عمرو علاء
مسؤول مطابقة والتزام
لم يعد الخطر الحقيقي في سباق التسلح المعاصر يكمن في عدد الرؤوس النووية أو سرعة الصواريخ، بل في “الأموال الهادئة” التي تمر بسلاسة عبر أنظمة يفترض أنها صممت للحماية لا للتسريب، فبين إجراءات امتثال شكلية وتقارير مطمئنة تنمو ثغرات صامتة تسمح بتمويل برامج تسلح محظورة تحت غطاء التجارة والاستثمار المشترك.
السؤال اليوم لم يعد كيف يحدث ذلك، بل لماذا لا نراه رغم وضوح المؤشرات؟
تحول استراتيجي: من الميدان العسكري إلى الميدان المالي
سباق التسلح في صورته الحديثة لم يعد عسكرياً بحتاً، بل أصبح مالياً وتنظيمياً بالدرجة الأولى، تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن شبكات تمويل انتشار التسلح تعتمد بشكل متزايد على قنوات مالية وتجارية “مشروعة تماماً”، بعيداً عن التحويلات المشبوهة أو الكيانات المدرجة صراحة على قوائم العقوبات.، هذا التحول يجعل المخاطر أكثر تعقيداً لأنها ببساطة تمر من داخل الأنظمة لا من خارجها.
فخ “الاستخدام المزدوج”: قانونية الشكل وخطورة الهدف
يختلف تمويل انتشار التسلح جوهرياً عن غسل الأموال أو تمويل الإرهاب، فهو غالباً لا يرتبط بنشاط إجرامي ظاهر في بدايته، بل بأنشطة تجارية قانونية تتعلق بمعدات “مزدوجة الاستخدام”، أو سلاسل توريد معقدة عبر دول مختلفة، وهنا تكمن الخطورة الحقيقية حيث تصبح المعاملة سليمة “ورقياً”، بينما يكون هدفها النهائي غير مشروع.
وتشير الدراسات الدولية إلى أن أكثر من 70% من حالات تمويل انتشار التسلح التي كُشفت مؤخراً لم تكن نتيجة تواطؤ مباشر، بل نتيجة “قصور في تقييم المخاطر” وضعف فهم نماذج التجارة الدولية، هذا الرقم يكشف بوضوح أن الخلل غالباً ليس في “النية” بل في “المنظومة”.
وهم الأمان: ما وراء مطابقة الأسماء
واحدة من أخطر ثغرات الامتثال هي التعامل معه كإجراء “دفاعي” بارد، لا كنظام ديناميكي لإدارة المخاطر، الاكتفاء بمطابقة الأسماء مع قوائم العقوبات يخلق شعوراً زائفاً بالأمان، بينما تؤكد تقارير “مجموعة العمل المالي” (FATF) أن غالبية الحالات التي رُصدت مرت عبر مؤسسات ملتزمة تنظيمياً، لكنها فشلت في ربط المعاملة بـ “السياق الاقتصادي” الحقيقي.
التجارة الدولية: الثقب الأسود في ملف الامتثال
تمثل التجارة الدولية نقطة الضعف الأكبر، إذ تظهر البيانات أن ما يزيد على 80% من حالات التمويل تمر عبر فواتير تجارية، شركات واجهة، أو سلاسل توريد متعددة الأطراف، حيث يتم التلاعب في قيم السلع أو طبيعتها مع الحفاظ على مستندات مكتملة شكلياً، وفي حالات عملية تم استخدام شركات مسجلة في دول “منخفضة المخاطر” لتمويل شراء معدات محظورة عبر طبقات من الوسطاء، وهو ما يبرز فشل “الامتثال الشكلي” في مواجهة “المخاطر الجوهرية”.
الحوكمة الغائبة والمسؤولية السيادية
لا يمكن فصل هذه الثغرات عن ضعف الحوكمة فالمراجعات التنظيمية أظهرت أن المؤسسات التي اخترقت تشترك في سمة واحدة، وهي غياب الإشراف الفعلي من مجالس الإدارة، ففي أكثر من نصف الحالات، لم يكن تمويل انتشار التسلح مدرجاً ضمن “المخاطر الاستراتيجية”، بل عومل كملف هامشي.
اليوم يتزايد التركيز الرقابي العالمي على هذا الملف باعتباره تهديداً للأمن القومي، لا للنظام المالي فحسب، وفي اقتصاد منفتح مثل الاقتصاد الكويتي، يتمتع بموقع تجاري ومالي مؤثر، تكتسب هذه المخاطر بعداً إضافياً، فكل ثغرة غير مرئية تمثل مخاطرة “نظامية” تمتد آثارها إلى سمعة السوق وثقة الشركاء الدوليين.
من الامتثال الدفاعي إلى الامتثال الذكي
التحول المطلوب هو الانتقال إلى “الامتثال الذكي” القائم على الفهم والتحليل والاستباق، ثغرات الامتثال ليست مجرد أخطاء إجرائية، بل هي شروخ استراتيجية قد تتحول إلى قنوات مفتوحة لتمويل سباق تسلح يدفع العالم ثمنه لاحقاً.
السؤال الذي يفرض نفسه: من سيسد هذه الثغرات قبل أن تتحول من مخاطر صامتة إلى أزمات معلنة؟
عزيزي القارئ
إن الوعي بهذه المخاطر لم يعد ترفاً، بل ضرورة يفرضها تسارع الأحداث الجيوسياسية، وفي هذا السياق لا يمكننا إغفال الدور المحوري والحازم الذي تلعبه هيئة أسواق المال، فمنذ مطلع عام 2025 قطعت الهيئة الطريق على الثغرات الصامتة بإصدار ثلاثة تعاميم استراتيجية (أرقام 21، 22، و24) رسمت من خلالها خارطة طريق واضحة لمكافحة تمويل انتشار التسلح، بدءاً من الأدلة الإرشادية وصولاً إلى أدق مؤشرات الخطر، فكن أنت الامتداد الواعي لهذه الجهود الرقابية لأن حماية النظام المالي الكويتي تبدأ من إدراكك لما وراء المعاملة.
“ خلف كل فاتورة تجارية ‘غامضة’.. قد يختبئ ثمن رصاصة لن تستطيع استردادها”



