ما بين التعريف اللغوي والاصطلاحي والاقتصادي لغسل الأموال

انتهينا في المقال السابق إلى أننا سنتحدث عن مختلف التعريفات التي قيلت بشأن غسل الأموال… وها نحن أولاء في هذا المقال سنورد أهمها: –
ــ تعريف: مفهوم غسل الأموال في اللغة والاصطلاح:
تمهيد وتقسيم..
إن السياق العملي لجريمة غسل الأموال يفرض طابعاً نظرياً لدراستها، بمعنى أن الآلية التي تُرتكب بها الجريمة بمرورها من خلال مرحلتين تُوجب البحث فيهما تباعاً، بيد أنه وقبل الدخول في هاتين المرحلتين يظهر من المنطقي أن نعطي تحديداً للمفهوم القانوني لغسل الأموال حتى يتسنى لنا تكوين خلفية عن هذه الجريمة يسهُل معها بيان العناصر القانونية المكونة لها. وعلى إثر ذلك فإن عرض البحث استوجب أن نوضح مفهوم غسل الأموال من خلال التطرق إلى ملامحها وآلية التعامل التشريعي معها، وذلك على النحو التالي: –
المعنى اللغوي لكلمة غسل: –
لفظة (غسيل) على وزن فعيل بمعنى مفعول، وهي مشتقة من الفعل الثلاثي “غسل” قال ابن فارس: (الغين والسين واللام أصل صحيح يدل على تطهير الشيء وتنقيته، يقال: غسلتُ الشيء غسلاً، والغُسل: الاسم والغسول: ما يُغسل به الرأس من خطمي أو غيرهوغسل الله حُوبتك أي إثمك يعني: طهرك منه، وفي حديث الدُعاء: (اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد) أي طهرني من الذنوب.
أما الألفاظ التي ترادف غسل… فهي كالآتي: –
1ــ تنظيف:
وهو من صيغ المبالغة، مشتق من الفعل الثلاثي (نظف). قال ابن فارس: النون والظاء والفاء كلمة واحدة، وهي من قولهم شيء نظيف: نقي بين النظافة، ونظفته نقيتهُ تنظيفاً، والنظافة: النقاوة، والتنظيف: التنقية وفي الحديث عن سعيد بن المسيب، عن سعد بن أبي وقاص مرفوعاً (إن الله طيب يُحب الطيب، نظيف يحبُ النظافة).
قال ابن الأثير نظافة الله كناية عن تنزهه عن سمات الحدث وتعاليه في ذاته عن كل نقص، وحُبه النظافة من غيره كناية عن خلوص العقيدة ونفي الشرك ومجانبة الأهواء، ثم نظافة القلب من الغل والحقد وأمثالها.
2ـ تطهير:
وهي صيغة مبالغة، مشتق من الفعل الثلاثي (طهُر). نظُف ونقي من النجاسة والدنس، وطهر الشيء تطهيراً: جعله طاهراً، وبرأه من العيوب والنقائص. والتطهير: كالتنظيف، والتغسيل وزناً ومعنى.
3ـ تبيض:
صيغة مبالغة، مشتقة من البيض، قال ابن فارس (الباء والياء والضاد أصل ومشتق منه ومشبه بالمشتق، فالأصل البياض من الألوان، يقال: أبيض الشيء: والبياض: ضد السواد يكون ذلك في الحيوان والنبات وغير ذلك مما يقبله غيره، وبيض الرسالة ونحوها: أعاد كتابتها بعد تسويدها.
*******
ورود الكلمة في القرآن الكريم: –
وردت كلمة “غسل” في القرآن الكريم ثلاث مرات:
1ـ في قوله تعالى في الوضوء (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق).
2ـ وقوله في الطهارة من الجنابة (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا).
3ـ وقوله تعالى لأيوب عليه السلام (أركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب).
وقد يعبر عن الغسل بالتطهير كقوله تعالى (وإن كنتم جُنباً فاطهروا)، أي اغتسلوا، وقوله تعالى (وثيابك فطهر) أي أغسله ونظفه من النجاسة.
رأي الباحث: –
ونرى أن غسل الأموال يطلق الآن على ما يسمى بالاقتصاد الخفي والاقتصاديات السوداء أو اقتصاديات الظل التي تنطوي في جزء كبير منها على كسب الأموال من مصادر غير مشروعة، ولخوف أصحابها من المساءلة القانونية وخشيتهم من الناس فإنهم يلجؤون بعد كسبها في غفلة من القانون أو تواطؤ من القائمين عليه أو في بلد آخر إلى تحويل هذه الثروة غير المشروعة إلى ثروة تبدو في ظاهرها مشروعة كشراء أرض زراعية، أو بناء عقارات، أو إنشاء مصانع، أو إيداعات في البنوك أو مشاركة الآخرين.
وعلى هذا النحو نرى أن مصطلح غسل الأموال مصطلح مجازي تم فيه تشبيه الأموال القذرة بالجنب أو الشيء النجس ثم حذف المشبه به وأتى بشيء من لوازمه وهو الغسل بالماء بقصد الطهارة والتطهير، وهذا المجاز في رأينا المتواضع في غير محله لأنه إذا صح في حال رد الحقوق إلى أصحابها وأداء الزكاة وإزالة النجاسات فإنه لا يصح في عمليات النصب والكذب والخداع التي ظاهرها الغسل والتطهير وحقيقتها المزيد من إجراء العمليات المشروعة ظاهراً.
المعنى الاصطلاحي للكلمة: –
اختلف الباحثون والمهتمون بظاهرة غسل الأموال حول تحديد المقصود بها فعرفها بعضهم بأنها “عملية تنظيف الأموال القذرة المتأتية عن طريق الجريمة مع عدم الكشف عن المصدر غير المشروع لتلك الأموال”.
على حين يرى فريق آخر: أنها عملية إخفاء حقيقة الأموال المستمدة عن طريق غير مشروع عن طريق القيام بتصديرها أو إيداعها في مصارف دول أخرى، أو نقل إيداعها، أو توظيفها أو استثمارها في أنشطة مشروعة للإفلات بها من الضبط والمصادرة وإظهارها كما لو كانت مستمدة من مصادر مشروعة، وسواء كان الإيداع أو التمويه أو النقل أو التحويل أو التوظيف أو الاستثمار قد تم في دول متقدمة أو دول نامية.
رأي الباحث: –
ونرى أن كل ما ذُكر من تعريفات صحيح كله ولا اعتراض لنا عليها لأنها تؤدي تقريباً إلى نفس المعنى غير أننا إذا أردنا الوصول إلى مفهوم واضح وشامل لمعنى غسل الأموال فسنجد أن هناك اتجاهين لتحديد مفهوم غسل الأموال اتجاه ضيق وآخر واسع.
فالاتجاه الضيق يقصر مفهوم غسل الأموال على الأموال غير المشروعة المتأتية من جرائم محددة – على سبيل الحصر – مثل جرائم المخدرات والمؤثرات العقلية، وتعتبر اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الاتجار غير المشروع في المخدرات والمؤثرات العقلية (اتفاقية فيينا 1988م) من أوائل الاتفاقيات الدولية التي جرمت غسل الأموال الناتج من تجارة المخدرات متى كانت هذه الأعمال تنطوي على تحويل للأموال أو نقل لها مع العلم بأنها مستمدة من أية جريمة من جرائم المخدرات المذكورة في الاتفاقية، لأجل إخفاء المصدر غير المشروع للأموال أو تمويهه، أو لغرض مساعدة أي شخص متورط في ارتكاب مثل هذه الجرائم على الإفلات من المسئولية القانونية بسبب أفعاله، وكذلك إخفاء أو تمويه حقيقة الأموال أو مصدرها أو مكانها أو طريقة التصرف فيها أو حركتها أو الحقوق المتعلقة بها أو ملكيتها متى كان من يقوم بذلك يعلم بأنها – أي الأموال غير المشروعة – مستمدة من جرائم المخدرات أو أنها مستمدة من فعل من أفعال الاشتراك في مثل هذه الجريمة أو الجرائم.
المفهوم الواسع لمصطلح غسل الأموال: –
أما القوانين التي أخذت بالمفهوم الواسع لمصطلح غسل الأموال، فهدفت إلى أن يشمل غسل الأموال جميع الأموال غير المشروعة المتأتية من جميع الجرائم دون استثناء، بما في ذلك جرائم المخدرات، ومن ذلك ما نص عليه نظام مكافحة غسل الأموال السعودي الذي اعتبر غسل الأموال هو ارتكاب أي فعل أو الشروع فيه لغرض إخفاء أو تمويه أصل حقيقة أموال اكتسبت خلافاً لأحكام الشريعة الإسلامية أو الأنظمة النافذة بقصد جعلها تبدو كأنها مشروعة أو نظامية المصدر، بما في ذلك تمويل الإرهاب والمنظمات الإرهابية.
وفي تقديري: –
أن الاتجاه الذي تبنى المفهوم الواسع لغسل الأموال هو الاتجاه الصحيح كي يستوعب النص القانوني أي جرائم مستحدثة في المستقبل متى كانت تخالف أحكام الشرع. وأياً كان اتجاه الدول فإننا يمكننا القول أن غسل الأموال – بشكل مختصر – هو العملية أو العمليات التي يقصد منها إخفاء أو تمويه طبيعة الأموال غير المشروعة المصدر، والتي يتم التحصل عليها بسبب ارتكاب فعل إجرامي لإخفاء أو تمويه المصدر الأصلي لهذه الأموال، ومن ثم إضفاء صفة المشروعية على الأموال المتحصلة من مصادر غير مشروعة لاستثمارها في أنشطة مشروعة).
تعريف غسل الأموال من الناحية الاقتصادية والقانونية: –
قلنا: إن عملية غسل الأموال، كما هو ظاهر من اسمها، أنها عملية تُطهر من خلالها أموال لم يكن بالإمكان التعامل فيه إلا من خلال إضفاء صفة المشروعية عليها، بسبب أنها كانت ناتجة عن عمل غير مشروع، ومخالف لقوانين الإقليم الواقع فيها على نحو ما أسلفنا من أمثلة العمل غير المشروع.
ولا شك أن إضفاء صفة المشروعية هذه يستوجب القيام بعمليات اقتصادية ومالية تهدف إلى تسييل الأموال بصورة مشروعة ومرنة، ولذلك يمكن أن نحدد لعملية غسل الأموال تعريفين، أحدهما اقتصادي وآخر قانوني.
أما التعريف الاقتصادي: –
فيستوجب أن نفرق بين ما إذا كان المال نقدياً أو عينياً، فإن كان المال نقدياً، فغسله يحتاج إلى إعمال ثلاث مراحل، أولهما مرحلة التوظيف، أو ما يسمى بمرحلة (ما قبل الغسل) وفيها تودع الأموال في عمليات مالية مشروعة أو حسابات مصرفية ثم تأتي بعد ذلك عملية التمويه، أو ما يسمى مرحلة (الغسل) وفيها يفصل المصدر غير المشروع للأموال عن المال المتحصل، وأخيراً تأتي عملية الدمج، وفيها تضفي صفة المشروعية على المال غير المشروع.
وأما إذا كان المال عينياً فإن الغسل يمر بثلاث مراحل أخرى مختلفة أولهما، التحويل إلى الأصل العيني عن طريق شراء أموال عينية كالعقارات والسلع ثم تحويل الأصول العينية إلى سيولة نقدية.
وأخيراً معالجة الأموال السائلة بالاستبدال بها عملات أخرى أو فئات أخرى من العملة نفسها أو تحويل من حساب أخر.
وصفوة القول: –
نستطيع أن نُجمل التعريف الاقتصادي لغسل الأموال بأنها “عملية تحويل الأموال نقدية أو عينية من خلال تمويه مصدرها وصولاً إلى إظهاره بصورة مشروعة.
وسوف نتابع تعريف غسل الأموال من الناحية الاقتصادية والقانونية في مقالنا القادم – بإذن الله -.