هل فقد الدولار هيمنته العالمية؟ بين الانكشاف المالي الأمريكي وتنامي السياسات القومية وتغير سلوك البنوك المركزية

رغم أن الدولار لا يزال يشكّل العمود الفقري للنظام المالي العالمي، فإن موقعه المهيمن كعملة احتياطية دولية لم يعد مضمونًا بنفس القدر كما كان سابقًا. فقد بدأ المشهد النقدي العالمي يشهد تحولات تدريجية، سواء من ناحية بنية التجارة الدولية، أو التوجهات السياسية، أو سياسات البنوك المركزية، مما يثير تساؤلات جادة حول مستقبل الدولار في النظام النقدي الدولي. وفقاً لبيانات صندوق النقد الدولي، انخفضت حصة الدولار من الاحتياطيات العالمية من أكثر من 70% في عام 2000 إلى 59% في عام 2024، مما يشير إلى تراجع تدريجي في هيمنته (صندوق النقد الدولي، 2024).
أولًا: النظام الحالي… وريث بريتون وودز
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تشكل النظام النقدي العالمي على أسس اتفاق بريتون وودز (1944)، حيث فُرض الدولار الأمريكي كعملة احتياطية رئيسية مرتبطة بالذهب، قبل أن ينفصل عنها رسميًا في 1971 خلال إدارة الرئيس نيكسون. بفضل عمق أسواقه المالية، وثقة المستثمرين في مؤسساته، تمتع الدولار لعقود بمكانة فريدة مكّنته من أداء وظائف النقد العالمي: وسيلة تبادل، وحدة حساب، ومخزن للقيمة.
لكن هذه المكانة، التي بدت راسخة لعقود، أصبحت اليوم موضوع شكّ في ضوء تغيرات هيكلية داخل وخارج الاقتصاد الأمريكي. وكما يشير مجلس العلاقات الخارجية (2023)، فإن “العديد من الاقتصادات الناشئة سعت بشكل متزايد إلى إيجاد طرق لإجراء التجارة بعملات غير الدولار، خاصة في ظل تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا وتبعات جائحة كوفيد-19”.
ثانيًا: تآكل المزايا النسبية للدولار – تحليل متعدد المؤشرات
1- مؤشر الاحتياطيات العالمية: تنويع متزايد
تشير بيانات صندوق النقد الدولي إلى انخفاض تدريجي في حصة الدولار من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية من أكثر من 70% في عام 2000 إلى 59% في عام 2024. وبشكل مثير للاهتمام، فإن هذا التراجع لم يقابله زيادات في حصص العملات الأربع الكبرى الأخرى — اليورو (20%) والين والجنيه الإسترليني، بل صاحبه ارتفاع في حصة ما يسمى بعملات الاحتياطي غير التقليدية، مثل الدولار الكندي والدولار الأسترالي والكرونة السويدية (صندوق النقد الدولي، 2024).
شهدت السنوات الأخيرة زيادة ملحوظة في احتياطيات الذهب لدى البنوك المركزية، حيث اشترت البنوك المركزية مجتمعة صافي 1,136 طن من الذهب في عام 2022، وهو أعلى طلب سنوي مسجل، و1,037 طن أخرى في عام 2023 (J.P. Morgan، 2024). ويعكس هذا التوجه رغبة متزايدة في التنويع بعيداً عن النظام المالي المتمركز حول الدولار الأمريكي.
2- مؤشر التجارة الدولية: تراجع نسبي مع استمرار الهيمنة
على الرغم من تراجع دور التجارة الدولية في الناتج العالمي، لا يزال الدولار يلعب دوراً محورياً في التجارة العالمية. وفقاً لمعهد بروكينجز (2024)، يستخدم الدولار في 54% من فواتير التجارة الخارجية عالمياً اعتباراً من عام 2022. ومع ذلك، فإن تصاعد النزعة الحمائية، وتبسيط سلاسل التوريد، وتوطين الإنتاج، قد يؤدي على المدى الطويل إلى تقليل الحاجة للاحتفاظ بكميات كبيرة من الاحتياطيات.
من المهم التمييز هنا بين تراجع كثافة التجارة العالمية وتراجع دور الدولار فيها. فكما تشير دراسة J.P. Morgan (2024)، فإن “الانخفاض الطفيف في كثافة التجارة يعكس على الأرجح بعض التقارب في اختلافات التكلفة عبر البلدان، ونضج مبادرات تحرير التجارة الحالية، والمزيد من التجارة داخل البلدان بسبب ارتفاع الطلب من العملاء المحليين، وتزايد كثافة الخدمات في الاقتصادات” وليس بالضرورة نتيجة للنزعة القومية الاقتصادية.
3- مؤشر الديون العالمية: تعزيز مفاجئ لمكانة الدولار
على عكس مؤشر الاحتياطيات، شهدت حصة الدولار في الديون العالمية ارتفاعاً ملحوظاً. فوفقاً لمعهد بروكينجز (2024)، ارتفعت الأوراق المالية المستحقة المقومة بالدولار من 49% في عام 2010 إلى 64% في عام 2024. هذا التناقض بين مؤشرات مختلفة يشير إلى أن تراجع هيمنة الدولار ليس ظاهرة موحدة عبر جميع وظائف العملة العالمية.
4- مؤشر المدفوعات الدولية: تحديات جديدة
يشكل الدولار نسبة كبيرة من المدفوعات الدولية — 58% باستثناء المدفوعات داخل منطقة اليورو. ومع ذلك، تتطور أنظمة دفع جديدة عالمياً بسرعة وتسهل المعاملات عبر الحدود دون مشاركة البنوك الأمريكية. على سبيل المثال، مشروع mBridge هو منصة متعددة للعملات الرقمية للبنوك المركزية تربط البنوك المركزية والتجارية عبر الصين وهونغ كونغ وتايلاند والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية دون الاعتماد على الدولار J.P. Morgan، 2024).)
5- التشكيك في استمرارية أدوات السيولة مثل خطوط المبادلة
أحد أعمدة قوة الدولار هو وجود آليات مثل “خطوط المبادلة” التي تتيح للبنوك المركزية الأجنبية الوصول السريع للدولارات في الأزمات. وكما يشير معهد بروكينجز (2024)، فإن “الاحتياطي الفيدرالي يمد خطوط المبادلة إلى البنوك المركزية الأجنبية، مما يوفر لها سيولة بالدولار خلال أوقات الضغط المالي الشديد”.
ومع ذلك، فإن تنامي الشكوك حول رغبة الإدارة الأمريكية في الإبقاء على هذه الترتيبات — خاصة في ظل توترات سياسية أو تغيرات في السياسة الخارجية — قد يضعف من صورة الدولار كملاذ آمن في الأزمات. وقد أشار ستيف كامين من معهد المشروع الأمريكي ومارك سوبل من المنتدى الرسمي للمؤسسات النقدية والمالية إلى أن الولايات المتحدة يمكنها الحفاظ على فوائد الدولار القوي على المدى الطويل من خلال “تجنب الإساءة الأحادية للعقوبات المالية، والحفاظ على ثقة العالم في قدرة أمريكا على التصرف بمسؤولية” (معهد بروكينجز، 2024).
ثالثًا: المخاطر السياسية والقانونية تهدد الاستقرار
1- العقوبات وتجميد الأصول
تجميد الأصول الروسية وفرض عقوبات مالية واسعة النطاق عزز مخاوف الدول من استخدام الدولار كأداة سياسية، ما دفع عددًا من الدول — خاصة غير الغربية — إلى مراجعة انكشافها على الدولار. وكما يشير مجلس العلاقات الخارجية (2023)، فإن “مركزية الدولار في نظام المدفوعات العالمية تزيد من قوة العقوبات المالية الأمريكية”.
ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الاختبارات الإحصائية التي أجراها صندوق النقد الدولي (2024) “لا تشير إلى تسارع في انخفاض حصة الدولار من الاحتياطيات، خلافًا للادعاءات بأن العقوبات المالية الأمريكية قد سرّعت الابتعاد عن الدولار الأمريكي”. هذا التناقض بين التصورات والبيانات الفعلية يستحق مزيداً من البحث.
2- ضعف الالتزام بسيادة القانون
القطاع الخاص، والبنوك الدولية تحديدًا، تحتاج لضمانات قوية بعدم مصادرة أو تجميد أموالها. أي تراجع في قوة المؤسسات القانونية الأمريكية، أو تصاعد الشكوك حول استخدام القضاء لخدمة أجندات سياسية، من شأنه أن يدفع نحو إعادة تقييم الاعتماد على الدولار.
وكما يشير معهد بروكينجز (2024)، فإن الولايات المتحدة يمكنها الحفاظ على فوائد الدولار القوي من خلال “الحفاظ على الخصائص الفريدة للنظام الاقتصادي والمالي الأمريكي، وتنفيذ سياسات اقتصادية كلية سليمة، وتجنب الإساءة الأحادية للعقوبات المالية، والحفاظ على ثقة العالم في قدرة أمريكا على التصرف بمسؤولية”.
رابعًا: دور اليوان الصيني – تقييم واقعي
على الرغم من الجهود الصينية لتعزيز دور اليوان عالمياً، فإن تدويل العملة الصينية يواجه تحديات كبيرة. وفقاً لصندوق النقد الدولي (2024)، فإن “تدويل اليوان، على الأقل كما يقاس بحصة العملة من الاحتياطيات، يظهر علامات على التوقف” وأن “أحدث البيانات لا تظهر زيادة إضافية في حصة اليوان من العملات”.
وعلى الرغم من أن الحكومة الصينية تتقدم بسياسات على جبهات متعددة لتعزيز تدويل اليوان، بما في ذلك تطوير نظام دفع عبر الحدود، ومد خطوط المبادلة، وتجريب عملة رقمية للبنك المركزي، فإن معهد Brookings بروكينجز (2024) يشير إلى أن “الحكومة الصينية تحافظ على ضوابط صارمة على رأس المال لإدارة أسعار الصرف، مما يجعل من الصعب نقل الأموال خارج البلاد، واليوان غير سائل للغاية”.
هذه التحديات تحد من قدرة اليوان على منافسة الدولار كعملة احتياطية عالمية في المستقبل المنظور، على الرغم من زيادة استخدامه في التجارة الثنائية مع الصين.
خامسًا: إلى أين يتجه العالم؟ سيناريوهات مستقبلية
سيناريو 1: التراجع التدريجي (الأكثر ترجيحاً)
من غير المرجح أن يشهد النظام النقدي الدولي “لحظة استبدال” مفاجئة، كما حدث مع الجنيه الإسترليني بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن المرجح هو تآكل تدريجي لمكانة الدولار، ليأخذ العالم شكلًا متعدد الأقطاب ماليًا.
من المتوقع أن يشهد العالم نموذجًا مشابهًا لما حدث للجنيه الإسترليني في ثلاثينيات القرن العشرين: تراجع تدريجي في الأهمية النسبية، دون أن تُستبدل عملة واحدة بالدولار، بل عبر صعود تدريجي لمجموعة من العملات الأخرى (اليورو، اليوان، الذهب…).
وكما يشير J.P. Morgan (2024)، فإنه “في حين أن التنويع بعيدًا عن الدولار هو اتجاه متنامٍ، فإن العوامل التي تدعم هيمنة الدولار لا تزال راسخة وهيكلية بطبيعتها، وأن إزالة الدولرة الهادفة ستستغرق على الأرجح عقودًا”.
سيناريو 2: استمرار الهيمنة مع تعديلات
في هذا السيناريو، قد تنجح الولايات المتحدة في الحفاظ على مكانة الدولار من خلال إصلاحات في سياساتها المالية والنقدية، وتعزيز التعاون الدولي، والحد من استخدام العقوبات المالية كأداة سياسية.
كما يشير معهد بروكينغز (2024)، فإن “في بعض الحالات، زادت أهمية الدولار، ولم تنخفض. فقد نمت الأوراق المالية المستحقة المقومة بالدولار من 49% في 2010 إلى 64% في 2024”. هذا يشير إلى أن الدولار قد يحافظ على هيمنته في بعض المجالات حتى مع تراجعه في مجالات أخرى.
سيناريو 3: تسارع التراجع بسبب أزمات غير متوقعة
قد تؤدي أزمات غير متوقعة — مثل أزمة مالية أمريكية حادة، أو تصاعد حاد في الاستقطاب السياسي الأمريكي، أو صراعات جيوسياسية كبرى — إلى تسريع وتيرة التراجع في مكانة الدولار.
وكما يشير J.P. Morgan (2024)، فإن “الأحداث السلبية التي تقوض السلامة والاستقرار المتصورين للدولار الأمريكي — والمكانة العامة للولايات المتحدة كقوة اقتصادية وسياسية وعسكرية رائدة في العالم” قد تؤدي إلى تآكل مكانة الدولار. على سبيل المثال، “قد يعرض زيادة الاستقطاب في الولايات المتحدة الاستقرار المتصور لحوكمتها، والذي يدعم دورها كملاذ آمن عالمي”.
خاتمة: من الهيمنة إلى الصدارة النسبية
قد لا يفقد الدولار مكانته كأهم عملة احتياطية في المدى القصير والمتوسط، ولكن من المؤكد أن مكانته لم تعد مطلقة كما في السابق. فعالم اليوم يتجه نحو توزيع المخاطر وتعدد مصادر الأمان المالي، لا سيما مع تآكل المزايا التقليدية التي ميزت الدولار لعقود.
إنه انتقال من “الهيمنة النقدية” إلى “الصدارة النسبية”، وهو تحول يتطلب من صناع السياسة في الولايات المتحدة وحول العالم التكيف مع واقع جديد يتسم بتعدد الأقطاب المالية وتنوع الخيارات النقدية.
وكما يختتم مجلس العلاقات الخارجية (2023) تحليله: “على الرغم من التحديات التي تواجه الدولار، لم تظهر منافسون جديون، مما يجعل من غير المرجح أن يتم استبدال الدولار الأمريكي كعملة احتياطية رائدة في أي وقت قريب”.