المساعدات الأمريكية تحت المقصلة… فهل يعوّض المليارديرات غياب الدول؟

-
كل دولار يُستثمر في الصحة يحقق عائداً اقتصادياً بمقدار 9 دولارات على المدى الطويل.
-
تبنى ترامب سياسة “أمريكا أولاً”، انعكس على تقليص المساعدات الموجهة لدول إفريقية تكافح الجوع، الأوبئة، وسوء التعليم.
-
بيل غيتس يعتزم التبرع بـ 99% من ثروته الضخمة خلال العشرين عامًا المقبلة.
-
لا تزال ثقافة العمل الخيري المؤسسي أقل نضجًا في بعض البلدان مقارنة بالنموذج الأمريكي.
-
مبادرة “Giving Pledge” التي وعد فيها عشرات المليارديرات بالتبرع بأكثر من نصف ثرواتهم.
-
تبرع بيل جيتس حتى الآن بأكثر من 100 مليار دولار لدعم مشاريع الصحة والتنمية.
-
إعلان بيل غيتس عزمه التبرع بكامل ثروته لمؤسسته الخيرية ليس مجرد موقف شخصي، بل هزة في عالم العمل الخيري الاقتصاد العالمي.
-
موّل غيتس عبر مؤسسته حملات تطعيم أنقذت أكثر من 122 مليون طفل حول العالم.
-
الراجحي خصص معظم ثروته لأعمال الخير لتتحول ثروته من رأسمال استثماري إلى رأسمال تنموي طويل الأجل.
بيل غيتس يواجه فراغ أمريكا: قصة قارة وحيدة تبحث عن دعم
المقدمة
في لحظة فارقة من التاريخ السياسي والاقتصادي، أحدثت قرارات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بقطع المساعدات الخارجية تحولًا استراتيجياً لا يستهان به في مشهد العمل الإنساني الدولي، خاصة تجاه القارة الإفريقية التي كانت تستفيد من برامج تنموية وصحية ممولة أمريكياً. هذا الانسحاب الأمريكي لم يُترك دون رد؛ فقد فجّر موجة من إعادة التفكير في مسؤولية أصحاب الثروات الكبرى، وعلى رأسهم بيل غيتس، الذي أعلن لاحقًا عن التبرع بمعظم ثروته لمكافحة الأمراض والفقر، خصوصاً بعد إغلاق “مؤسسة بيل وميليندا غيتس” في شكلها التقليدي.
أولاً: قرار ترامب… بداية التراجع الأمريكي عن الدور الإنساني
لم يعد العمل الخيري اليوم مجرد تبرعات موسمية أو مبادرات رمزية، بل تحول إلى قوة اقتصادية لها تأثير ملموس على الصحة العامة، التعليم، الابتكار، والتوظيف، لا سيما في الدول النامية. وبيل غيتس يُعدّ نموذجًا عالميًا لهذا التحول، إذ تجاوزت مساهماته المفهوم التقليدي “للإحسان” لتصبح أدوات تدخل اقتصادي وهيكلي في قطاعات كاملة. ولكن منذ توليه الرئاسة، تبنى ترامب سياسة “أمريكا أولاً”، مما انعكس على تقليص المساعدات الموجهة إلى الخارج، وعلى رأسها برامج المساعدات المخصصة لدول إفريقية تكافح الجوع، الأوبئة، وسوء التعليم مما شمل تمويل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) وبرامج الأمم المتحدة الصحية، ومنها ما يخص مكافحة الملاريا والإيدز في إفريقيا.
وقد أدى هذا إلى:
توقف برامج غذائية في عدة دول مثل حول العالم خصوصا أفريقيا.
تقليص دعم اللقاحات والبرامج الصحية.
فقدان آلاف العاملين في المجال الإنساني لوظائفهم بسبب وقف الدعم الأمريكي
ثانيًا: الأثر الاقتصادي العكسي على إفريقيا
عندما يتم تجميد الدعم الأمريكي لأفريقيا، لا يتعلق الأمر بمجرد أرقام. بل هناك سلسلة مترابطة من التأثيرات:
- زيادة نسبة الفقر بسبب توقف مشاريع تمكين اقتصادي.
- تفشي الأمراض نتيجة تراجع حملات التطعيم والرعاية الصحية الأولية.
- انكماش سوق العمل المحلي، حيث كان التمويل الأمريكي ينعش قطاعات المقاولات الصغيرة، والتعليم، والزراعة.
- تعطيل خطط التنمية الوطنية التي كانت تعتمد على منح تنموية موجهة.
وتقارير البنك الدولي تؤكد أن كل دولار يُستثمر في الصحة يحقق عائداً اقتصادياً بمقدار 9 دولارات على المدى الطويل. فما بالنا بخفض مليارات كانت توجه إلى بنية تحتية صحية متهالكة أصلاً.
ثالثًا: بيل غيتس… من واجب شخصي إلى التزام استراتيجي وتاثيره علي المحتاجين كالتالي:
- قطاع الصحة العالمية
- مول غيتس عبر مؤسسته حملات تطعيم أنقذت أكثر من 122 مليون طفل حول العالم.
- دعمه لتطوير لقاحات كالكورونا والملاريا ساهم في خفض معدلات الإصابة وخفض تكاليف العلاج على الحكومات.
- تحسين البنية التحتية الصحية في إفريقيا وآسيا أسهم في رفع متوسط العمر وزيادة الإنتاجية الاقتصادية.
- الابتكار الزراعي والغذائي
- استثمرت مؤسسة غيتس في أبحاث تهجين المحاصيل وتحسين الأمن الغذائي، مما رفع إنتاجية المزارعين الصغار بنسبة وصلت إلى 40% في بعض المناطق.
- تحسين الأمن الغذائي يعني تقليل الاعتماد على الواردات ورفع الكفاءة الاقتصادية المحلية.
- التعليم والتكنولوجيا
- دعم واسع لتعليم الفتيات في الدول النامية وتقليص الفجوة الرقمية.
- تمويل أدوات تعليمية رقمية ساعد في دعم منظومات التعليم عن بعد بعد جائحة كورونا، مما حافظ على العملية التعليمية وعزز مرونة الاقتصاد المعرفي.
- الاستثمار في الابتكار
- دعم شركات ناشئة في مجال الابتكار الصحي والطاقة النظيفة، مما يخلق فرص عمل ويحفز أسواقاً جديدة.
- بيل غيتس لا يتبرع فقط، بل “يستثمر لأجل الأثر” فيما يعرف بـ “التمويل الخيري الاستثماري” (Philanthropic Venture Capital).
و في رسالة ضمنية بأن على الأغنياء أن يملؤوا فراغ الدول المحتاجة المتأثرة من قرارترامب ومع تضاؤل الدعم الحكومي الأمريكي، بدأ يتحرك بثقلٍ أكبر عبر مؤسسته أعلن مؤسس شركة مايكروسوفت، بيل غيتس، أنه يعتزم التبرع بـ99% من ثروته الضخمة خلال العشرين عامًا المقبلة، عبر تسريع وتيرة العطاء من خلال مؤسسته الخيرية، مع خطط لإنهاء عملياتها بالكامل بحلول عام 2045. وقال غيتس، البالغ من العمر 69 عامًا، في تدوينة نُشرت يوم الخميس: “سوف يقول الناس الكثير عني بعد وفاتي، لكنني عازم على ألا يكون من بين ذلك قول: ’مات وهو غني‘. وأوضح أن مؤسسته التي تحمل اسمه قد تبرعت حتى الآن بأكثر من 100 مليار دولار (75 مليار جنيه إسترليني) لدعم مشاريع الصحة والتنمية، ويتوقع أن تنفق المؤسسة 200 مليار دولار إضافية خلال العقدين القادمين، وذلك بحسب أوضاع السوق والتضخم. واستشهد غيتس في تدوينته بمقالة كتبها الملياردير الأمريكي أندرو كارنيغي عام 1889 بعنوان “إنجيل الثروة”، والتي تؤكد أن على الأثرياء واجبًا أخلاقيًا بإعادة ثرواتهم إلى المجتمع. ونقل عن كارنيغي قوله:
“من يموت وهو غني، يموت بذل وعار.” هذا التعهد الجديد من غيتس يُعد تسريعًا واضحًا في وتيرة العمل الخيري، حيث كانت الخطة الأصلية له ولزوجته السابقة ميليندا أن تواصل المؤسسة عملها لعقود بعد وفاتهما. ورغم الخلافات الشخصية التي أدت لاحقًا إلى إغلاق “مؤسسة بيل وميليندا” التقليدية، فإن غيتس استمر في:
- تمويل حملات تطعيم ضد شلل الأطفال والملاريا في 40 دولة إفريقية.
- دعم مبادرات تعليمية رقمية للفتيات في غرب إفريقيا.
- إنشاء صناديق استثمارية للأبحاث الصحية المستدامة.
وحدد غيتس ثلاثة أهداف رئيسية لمؤسسته:
- القضاء على الأمراض التي تقتل الأمهات والأطفال ويمكن الوقاية منها.
- القضاء على الأمراض المعدية مثل الملاريا والحصبة.
- القضاء على الفقر لمئات الملايين من الناس حول العالم.
لقد أصبحت مؤسسته خلال عقد واحد أكثر تأثيراً من بعض الوكالات الحكومية، لا من حيث التمويل فحسب، بل في قدرتها على التحرك المرن والاستجابة السريعة. فإعلان بيل غيتس عزمه التبرع بكامل ثروته لمؤسسته الخيرية لم يكن مجرد موقف شخصي، بل سوف يحدث هزة في عالم العمل الخيري الاقتصاد العالمي للأسباب التالية:
- إعادة توجيه رأس المال: تحويل مئات المليارات من السوق المالية إلى مشاريع تنموية ذات مردود اجتماعي طويل الأجل.
- تحفيز أثرياء آخرين: شجع عشرات المليارديرات على الانضمام إلى “تعهد العطاء” Giving Pledge، مما يزيد من التدفقات المالية نحو قطاعات غير مدعومة حكوميًا.
رابعًا: صعود العمل الخيري كقوة اقتصادية بديلة
إن الفراغ الذي تتركه السياسات الانعزالية، كالتي تبناها ترامب، فتح الباب أمام ظاهرة جديدة: العمل الخيري كقوة اقتصادية موازية للسلطة السياسية.
- في 2023، بلغت مساهمات الأثرياء في العمل الخيري الدولي أكثر من 200 مليار دولار.
- تحركات مثل مبادرة “Giving Pledge” التي أسسها غيتس وبافيت، وعد فيها عشرات المليارديرات بالتبرع بأكثر من نصف ثرواتهم.
- نشوء تحالفات خيرية جديدة تمول مشاريع تنموية بعيداً عن المعايير البيروقراطية للدول.
لكن هذا التحول يثير تساؤلات عميقة:
- هل من المقبول أن تستند رفاهية الشعوب على قرارات فردية لأصحاب الثروات؟
- أين دور الحكومات في ضمان عدالة توزيع الدعم؟
- ما مدى شفافية ومساءلة هذه القوى الخيرية الجديدة؟
خامسًا: التوازن المطلوب بين الدولة والعمل الخيري
رغم أن الدور الذي يلعبه بيل غيتس وآخرون لا يمكن إنكاره، إلا أن الاعتماد المطلق على العمل الخيري محفوف بالمخاطر. يجب أن تُبنى منظومة شراكة واضحة بين:
- الحكومات التي تضع الأولويات الوطنية.
- المنظمات الدولية التي تمتلك أدوات الرقابة والتنفيذ.
- القطاع الخيري الذي يمكن أن يوفر المرونة والتمويل السريع.
كما أن هناك حاجة لخلق صناديق تنموية مستدامة برؤية استراتيجية طويلة المدى، بحيث لا تتحكم في مصير الشعوب تقلبات السياسة أو حتى الحالات الشخصية.
ماذا عن أثرياء أوروبا وآسيا والشرق الأوسط؟
في أوروبا:
- وارن بافيت (رغم أنه أمريكي) شارك غيتس في تأسيس “تعهد العطاء”.
- الألماني ديتمار هوب، مؤسس “SAP”، تبرع بأكثر من نصف ثروته لدعم الأبحاث الطبية في أوروبا.
- جوزيف سافرا من سويسرا دعم مشاريع تعليمية وصحية في أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية.
في آسيا:
- علي بابا – جاك ما أنشأ صندوقًا لدعم التعليم والابتكار في الريف الصيني.
- أزاد موبيوس والأمير الوليد بن طلال تعهدا بجزء كبير من ثروتهما للأعمال الخيرية.
- أناند ماهيندرا، أحد كبار الصناعيين الهنود، استثمر في تعليم الفتيات والتدريب المهني.
ومع ذلك، لا تزال الثقافة الخيرية المؤسسية أقل نضجًا في بعض البلدان الآسيوية مقارنة بالنموذج الأمريكي الذي تقوده مؤسسات ضخمة مثل مؤسسة غيتس.
النموذج العربي المسلم ملهم: سليمان الراجحي… ثروة خُصصت للآخرة
لن نذهب بعيدا ونذكر أقوي متبرع من بيل جيتس في التاريخ وهو عثمان بن عفان (صدقته الجارية لم تنقطع منذ 1400 سنة) وقصة شرائه بئرَ رُومَة بخمسةٍ وثلاثين ألفَ درهم، وأوقفَها في سبيلِ الله. هذه البئر كانت لها قصةٌ ترتبط بوقائعِ الهجرة، وتطورِ المجتمعِ المدني بعدها، واحتياجاتِه المتزايدةِ للمواردِ المائية. ولكن لنذهب تاريخنا المعاصر وهو الشيخ سليمان بن عبد العزيز الراجحي، مؤسس “مصرف الراجحي” وأحد أثرياء العالم العرب في المملكة العربية السعودية، حيث أعلن قبل سنوات عن توزيع 75% من ثروته في حياته وتخصيص معظمها للأعمال الخيرية، وهو ما جعله قدوة يُحتذى بها في العالم الإسلامي.
ويبرز اسم رجل الأعمال السعودي الشيخ سليمان الراجحي كأحد أعظم النماذج العربية في الوقف والتبرع المؤسسي، وهو ما يضعه في مقارنة طبيعية مع بيل غيتس، رغم اختلاف السياقات الاقتصادية والثقافية.
خصص الراجحي معظم ثروته لأعمال الخير في حياته، وأنشأ واحدة من أكبر المؤسسات الوقفية في الشرق الأوسط، لتتحول ثروته من رأسمال استثماري إلى رأسمال تنموي طويل الأجل. بينما بيل غيتس، القادم من بيئة ليبرالية غربية، وظف ثروته لبناء مؤسسة تتمتع بمرونة كبرى في التدخل السريع في الأزمات العالمية.
أوجه المقارنة والتحليل:
1- الدوافع والمنطلقات الفلسفية والدينية
– الراجحي انطلق من منطلقات شرعية rooted in القيم الإسلامية في “الوقف”، مؤمناً أن المال أمانة ويجب أن يُرد للمجتمع.
– غيتس انطلق من مبدأ “رد الجميل” للمجتمع العالمي، ودافع أخلاقي والبعض يقول لأسباب ضريبية.
2- آلية التوزيع والتأثير
– الراجحي اعتمد على مشاريع وقفية ذات طابع إنتاجي: زراعة، جامعات، إسكان، وهي مشاريع مستدامة تولد دخلاً ذاتيًا.
– غيتس اعتمد على تمويل مباشر سريع في المجالات الصحية والتكنولوجية، مستفيدًا من مرونة التمويل غير الحكومي.
3- توفير البيانات بقوة القانون الضريبي فتطبق الشفافية والحوكمة
– مؤسسة غيتس تخضع لرقابة ضريبية عالية ومعايير قياس أثر دقيق عالمياً.
– مؤسسة الراجحي رغم ريادتها في العالم الإسلامي، لا تزال بحاجة إلى تسويق عالمي وتحليل بياني لأثرها الاقتصادي على نطاق أوسع.
4- الامتداد الجغرافي:
– مؤسسة غيتس تعمل في أكثر من 130 دولة، بينما يتركز نشاط مؤسسة الراجحي في السعودية وبعض الدول الإسلامية.
5– الأثر المحلي مقابل العالمي:
– غيتس أحدث تحولاً في بنية الصحة العالمية (مثل دعم مكافحة شلل الأطفال والملاريا).
– الراجحي أحدث تحولاً في الفكر الوقفي الإسلامي، ونقل النموذج من الخيري إلى التنموي.
وفي النهاية:
رغم اختلاف المسارات والأدوات، فإن كلاً من الراجحي وغيتس يمثلان قوة ناعمة جديدة تعيد تعريف معنى الثروة. الأول بالأصالة الدينية، والثاني بالحداثة الإنسانية، وكلاهما يقدم درسًا للعالم في أن رأس المال لا تكتمل قيمته إلا إذا تحول إلى أداة لخدمة الإنسان. فما بين انسحاب الولايات المتحدة من المساعدات والدعوم في دعم الشعوب الفقيرة، وظهور المليارديرات كممولين بديلين، يبرز سؤال جوهري: هل يجب أن يُترك مصير الصحة والتعليم في الدول النامية لرحمة القرارات السياسية أو التبرعات الفردية؟ إن التجربة الإفريقية تُثبت أن الحل لا يكمن في جهة واحدة، بل في توازن عادل بين الدولة، المجتمع المدني، وأصحاب الثروات. وإلا فسيظل الفقر والمرض ينتظران توقيع قرار… أو شيك تبرع.. تبرعات بيل غيتس وزملائه من أصحاب المليارات ليست مجرد أعمال خيرية، بل لها أثار اقتصادية واسعة ستعيد رسم خريطة العمل الخيري والتنمية العالمية. وبينما تمثل هذه الجهود بصيص أمل في عالم مليء بالتفاوت، يجب ألا نغفل عن الحاجة لإيجاد توازن بين العمل الخيري، والعدالة الاقتصادية، والدور السيادي للدول.
بيل جيتس 69 عامًا
بيل جيتس مع إخوته كريستي وليبي في سنة 1971
بيل جيتس يعيد أيام الطفولة حين كان يهرب من غرفته إلي السرداب ليعمل بالكمبيوتر دون علم والديه.
في 1973 بيل جيتس في مختبر مدرسو ليكسايد حيث كان يمضي أوقاتا طويلة