
د. محمد جميل الشبشيري
تحرير الإيجارات القديمة ليس مجرد إجراء قانوني، بل هو إصلاح اقتصادي شامل يمكن أن يطلق العنان لقطاع العقارات ويحفز النمو الاقتصادي. هذه الرؤية الاقتصادية المتكاملة تستند إلى تحليل دقيق للواقع وتوقعات مدروسة للمستقبل.
في المقالات السابقة من هذه السلسلة، استعرضنا حجم مشكلة الإيجارات القديمة في مصر، والآثار الاقتصادية والاجتماعية المتوقعة لتحريرها، والدروس المستفادة من التجارب الدولية، وخارطة طريق عملية للتحرير المتوازن. واليوم، في المقال السادس من السلسلة، نسلط الضوء على الفوائد الاقتصادية والاجتماعية المتوقعة من تحرير متوازن لقانون الإيجارات القديمة.
تحسين حالة العقارات القديمة والحفاظ على الثروة العقارية
أحد أبرز الفوائد المتوقعة من تحرير الإيجارات القديمة هو تحسين حالة العقارات المتهالكة والحفاظ على الثروة العقارية الوطنية.
العديد من العقارات القديمة في وسط القاهرة والإسكندرية والمدن الكبرى تعاني من الإهمال والتدهور بسبب عدم قدرة الملاك على صيانتها، نظراً لانخفاض العائد من الإيجارات. زيادة القيمة الإيجارية ستوفر الموارد المالية اللازمة لصيانة وترميم هذه العقارات، مما سيطيل عمرها الافتراضي ويحافظ على قيمتها التاريخية والمعمارية.
دراسات كلية الهندسة بجامعة القاهرة تؤكد أن 35% من العقارات الخاضعة لقانون الإيجار القديم تحتاج إلى صيانة عاجلة، وأن 15% منها في حالة متدهورة تهدد سلامة قاطنيها. هذه الأرقام تعكس حجم المشكلة وأهمية التدخل السريع.
الواقع العملي يشير إلى أن عقاراً من 5 طوابق في حي شعبي مثل السيدة زينب قد يحتاج إلى ترميم شامل بتكلفة تصل إلى 500 ألف جنيه، بينما إجمالي الإيجار الشهري للعقار كله قد لا يتجاوز 800 جنيه. هذه المعادلة الاقتصادية غير المتوازنة تجعل من المستحيل على الملاك صيانة عقاراتهم، مما يهدد بفقدان جزء كبير من الثروة العقارية الوطنية.
زيادة الإيجارات بشكل متوازن ستمكن الملاك من ترميم العقارات وتحسين حالتها، وهذا سيفيد المستأجرين أيضاً الذين يعانون من مشكلات في السباكة والكهرباء والبنية التحتية للمباني.
زيادة المعروض من الوحدات السكنية في سوق الإيجار
من الفوائد المهمة المتوقعة أيضاً زيادة المعروض من الوحدات السكنية في سوق الإيجار، مما سيساهم في حل أزمة الإسكان.
هناك مئات الآلاف من الوحدات السكنية المغلقة في مصر، يحتفظ بها أصحابها خوفاً من تأجيرها بعقود قديمة. تحرير العلاقة الإيجارية سيشجع هؤلاء الملاك على طرح وحداتهم للإيجار، مما سيزيد المعروض ويخفف الضغط على سوق الإسكان.
إحصاءات وزارة الإسكان تشير إلى وجود نحو 2.8 مليون وحدة سكنية مغلقة في مصر، منها 1.2 مليون وحدة في المدن الكبرى. هذا الرقم الضخم يمثل طاقة سكنية معطلة يمكن استغلالها لتخفيف أزمة الإسكان.
الواقع العملي في سوق العقارات يؤكد أن العديد من أصحاب العقارات يفضلون ترك شققهم فارغة على تأجيرها، خوفاً من المشكلات القانونية وانخفاض العائد. لكن استطلاعات الرأي تشير إلى استعدادهم لتأجير هذه الوحدات إذا تم تحرير العلاقة الإيجارية وضمان حقوقهم.
زيادة المعروض من الوحدات السكنية سيؤدي إلى استقرار أسعار الإيجارات في السوق الحر على المدى الطويل، وسيوفر خيارات أكثر للباحثين عن سكن، خاصة الشباب والأسر حديثة التكوين.
تنشيط قطاع البناء والتشييد وخلق فرص عمل
سيؤدي تحرير الإيجارات القديمة إلى تنشيط قطاع البناء والتشييد، وخلق فرص عمل جديدة في الاقتصاد المصري.
قطاع البناء والتشييد يعتبر قاطرة النمو الاقتصادي، فهو يرتبط بأكثر من 90 صناعة وحرفة. تحسين العائد من العقارات سيشجع الاستثمار في هذا القطاع، وسيؤدي إلى خلق فرص عمل جديدة في مختلف المجالات.
دراسات وزارة التخطيط تؤكد أن كل مليار جنيه يتم استثمارها في قطاع البناء والتشييد تخلق نحو 5000 فرصة عمل مباشرة و10000 فرصة عمل غير مباشرة. هذه الأرقام تعكس الأثر المضاعف للاستثمار في هذا القطاع على الاقتصاد ككل.
التوقعات الاقتصادية تشير إلى أن تحرير الإيجارات القديمة سيؤدي إلى ضخ استثمارات جديدة في قطاع العقارات تقدر بنحو 50 مليار جنيه سنوياً، مما سيخلق نحو 250 ألف فرصة عمل مباشرة و500 ألف فرصة عمل غير مباشرة.
كما سيؤدي ذلك إلى تنشيط صناعات مرتبطة مثل الأسمنت والحديد والسيراميك والأخشاب والأثاث، مما سيعزز النمو الاقتصادي بشكل عام ويزيد من الناتج المحلي الإجمالي.
زيادة الإيرادات الضريبية للدولة
ستستفيد الدولة أيضاً من تحرير الإيجارات القديمة من خلال زيادة الإيرادات الضريبية، مما سيعزز الموازنة العامة ويوفر موارد إضافية للإنفاق على الخدمات العامة.
حالياً، الضرائب العقارية المحصلة من الوحدات الخاضعة لقانون الإيجار القديم ضئيلة للغاية، نظراً لانخفاض القيمة الإيجارية. زيادة الإيجارات ستؤدي إلى زيادة الضرائب العقارية وضرائب الدخل المحصلة، مما سيعزز موارد الدولة.
تقديرات وزارة المالية تشير إلى أن تحرير الإيجارات القديمة سيؤدي إلى زيادة الإيرادات الضريبية بنحو 5-7 مليارات جنيه سنوياً. هذا الرقم يمثل موارد إضافية يمكن توظيفها في تحسين الخدمات العامة.
هذه الإيرادات الإضافية يمكن توجيهها لتمويل برامج الدعم الاجتماعي للمستأجرين المتضررين، أو لتطوير البنية التحتية في المناطق العشوائية، أو لبناء وحدات سكنية جديدة ضمن مشروعات الإسكان الاجتماعي. وبذلك يمكن تحقيق دورة اقتصادية إيجابية تعود بالنفع على جميع الأطراف.
تحسين كفاءة استخدام الموارد العقارية
سيساهم تحرير الإيجارات القديمة في تحسين كفاءة استخدام الموارد العقارية، وتصحيح التشوهات في سوق العقارات.
أحد أبرز التشوهات في سوق العقارات المصري هو وجود وحدات سكنية كبيرة يسكنها أفراد قليلون (مثل مسن وحيد في شقة من 3 غرف)، بينما تعاني أسر كبيرة من ضيق المسكن. هذا التوزيع غير الكفء للموارد العقارية يؤدي إلى هدر في الثروة العقارية الوطنية.
تحرير العلاقة الإيجارية سيشجع على إعادة توزيع الوحدات السكنية بشكل أكثر كفاءة، حيث سيفضل بعض المستأجرين الانتقال إلى وحدات أصغر وأقل تكلفة، مما سيتيح الوحدات الكبيرة للأسر الأكبر حجماً.
الواقع العملي يشير إلى أن العديد من المستأجرين كبار السن الذين يعيشون بمفردهم في شقق كبيرة قد يفضلون الانتقال إلى وحدات أصغر إذا توفرت بإيجار معقول، مما سيوفر لهم الفرق في الإيجار ويتيح الشقق الكبيرة للأسر الشابة.
إعادة التوزيع هذه ستؤدي إلى تحسين كفاءة استخدام الموارد العقارية، وتحقيق أقصى استفادة من الثروة العقارية الوطنية.
تحقيق العدالة الاجتماعية وإنهاء التمييز بين المستأجرين
من الفوائد الاجتماعية المهمة لتحرير الإيجارات القديمة تحقيق العدالة وإنهاء التمييز بين المستأجرين.
الوضع الحالي يخلق تمييزاً غير مبرر بين المستأجرين القدامى الذين يدفعون إيجارات زهيدة، والمستأجرين الجدد الذين يدفعون إيجارات مرتفعة للغاية. هذا التمييز يخلق شعوراً بالظلم وعدم المساواة في المجتمع.
الأرقام تعكس حجم هذا التفاوت: مستأجر قديم قد يدفع 65 جنيهاً فقط مقابل شقة من غرفتين، بينما يدفع مستأجر جديد 3500 جنيه شهرياً مقابل شقة مماثلة في نفس العقار. هذا التفاوت الكبير لا يمكن تبريره بأي منطق اقتصادي أو اجتماعي.
تحرير الإيجارات القديمة بشكل متوازن سيقلل الفجوة بين الإيجارات القديمة والجديدة، ويحقق قدراً أكبر من العدالة بين المستأجرين. كما سيوزع عبء الدعم الاجتماعي على المجتمع ككل بدلاً من تحميله لفئة محددة (ملاك العقارات).
تحفيز الاستثمار في المناطق القديمة وإعادة إحيائها
سيؤدي تحرير الإيجارات القديمة إلى تحفيز الاستثمار في المناطق القديمة وإعادة إحيائها، مما سيحافظ على التراث العمراني ويعزز السياحة الثقافية.
المناطق التي تتركز فيها العقارات الخاضعة لقانون الإيجار القديم، مثل وسط القاهرة والإسكندرية، تعاني من الإهمال وتدهور البنية التحتية، مما يؤدي إلى هجرة الأنشطة التجارية والخدمية منها. هذا الإهمال يهدد بفقدان جزء مهم من التراث العمراني المصري.
تحسين العائد من هذه العقارات سيشجع على الاستثمار في تطويرها وتحديثها، مما سيؤدي إلى إعادة إحياء هذه المناطق وجذب الأنشطة التجارية والثقافية إليها. كما سيعزز السياحة الثقافية التي تعتمد على جاذبية المناطق التاريخية.
التجارب الدولية تؤكد نجاح هذا النهج، مثل تجربة إعادة إحياء وسط بيروت بعد تحرير الإيجارات، وتجربة تطوير المناطق القديمة في برشلونة وباريس. هذه التجارب أثبتت أن تحرير الإيجارات، إذا تم بشكل متوازن، يمكن أن يؤدي إلى نهضة عمرانية واقتصادية في المناطق القديمة.
تحديات التنفيذ وكيفية مواجهتها
رغم الفوائد المتوقعة، هناك تحديات في تنفيذ عملية تحرير الإيجارات القديمة، وضرورة مواجهتها بحكمة وتخطيط سليم.
أبرز التحديات هي التكلفة المالية لبرامج الدعم الاجتماعي، والمقاومة المتوقعة من بعض المستأجرين، والضغط على المحاكم بسبب زيادة النزاعات. هذه التحديات حقيقية لكنها ليست مستعصية على الحل.
الدراسات والتجارب تقترح عدة إجراءات لمواجهة هذه التحديات:
1- التدرج في التنفيذ: البدء بالمناطق والعقارات الأكثر استعداداً، ثم التوسع تدريجياً، مما يتيح الفرصة للتعلم من التجربة وتصحيح المسار.
2- التواصل الفعال: شرح فوائد التحرير المتوازن للرأي العام، وتوضيح آليات الدعم المتاحة للمتضررين، مما يقلل المقاومة ويبني الدعم المجتمعي.
3- الشراكة مع القطاع الخاص: إشراك المطورين العقاريين والمستثمرين في توفير بدائل سكنية ميسرة، مما يخفف العبء على الموازنة العامة.
4- المرونة في التطبيق: مراجعة الخطة بشكل دوري وإجراء التعديلات اللازمة بناءً على نتائج التطبيق، مما يضمن تحقيق الأهداف المرجوة.
هذه الإجراءات، إذا تم تنفيذها بشكل متكامل، ستساعد في تجاوز التحديات وتحقيق الفوائد المرجوة من تحرير الإيجارات القديمة.
رؤية مستقبلية لسوق الإيجارات في مصر
التوقعات الاقتصادية تشير إلى أن التحرير المتوازن للإيجارات القديمة سيؤدي إلى خلق سوق إيجارات أكثر كفاءة وعدالة، حيث تتحدد الإيجارات وفقاً لقوى العرض والطلب، مع وجود ضوابط تمنع الممارسات الاحتكارية وتحمي الفئات الضعيفة.
كما نتوقع زيادة الاستثمار في قطاع الإيجار السكني، وظهور شركات متخصصة في إدارة العقارات المؤجرة، وتطوير منتجات تمويلية جديدة تناسب احتياجات المستأجرين والملاك. هذه التطورات ستساهم في تحديث قطاع العقارات وزيادة كفاءته.
في النهاية، نحن أمام فرصة تاريخية لإصلاح تشوه استمر لعقود في سوق العقارات المصري. نجاح هذا الإصلاح سيتطلب توازناً دقيقاً بين المصالح المختلفة، ونهجاً تدريجياً في التنفيذ، وآليات فعالة للدعم الاجتماعي. لكن النتيجة ستكون اقتصاداً أكثر كفاءة، ومجتمعاً أكثر عدالة، وسوق إسكان أكثر استقراراً.
في المقال القادم والأخير من سلسلتنا: “خريطة الضرائب العقارية في مصر: فرصة غير مستغلة لإصلاح سوق الإسكان” – نقدم تحليلاً شاملاً لخريطة الضرائب والرسوم العقارية في مصر، ونقترح آلية عملية لتوظيف الإيرادات العقارية في حل أزمة الإيجارات القديمة.