مقالات

الرأسمالية على مفترق طرق: بين تقليص الدولة وتضخم السوق

 

د. محمد جميل الشبشيري

تمر الرأسمالية في العديد من دول العالم اليوم بحالة من الجدل العميق، لا سيما مع تصاعد السياسات التي تدفع نحو تقليص دور الدولة تحت ذريعة تحسين الكفاءة وترشيد الإنفاق. ففي الولايات المتحدة، أثارت الإجراءات التي اتخذها الرئيس دونالد ترامب – من تقليص الإنفاق الاجتماعي على التأمين الصحي إلى إنهاء خدمات آلاف الموظفين في الجهاز الإداري، وتخفيض موازنات البحث العلمي والجامعات – انتقادات واسعة. وقد صاحب هذه التوجهات انحياز واضح لصالح رجال الأعمال على حساب الطبقات المتوسطة والمهاجرين، ما كشف عن تصدعات داخل الحزب الجمهوري نفسه، وأعاد إشعال الخلاف القديم بين من يرون في الدولة ملاذًا اجتماعيًا، ومن يرونها عبئًا على حرية السوق.

مع مشروع قانون الضرائب الأميركي، الذي أُطلق عليه اسم “One Big Beautiful Bill Act” (OBBBA)، احتدم الجدل حول بند مثير للجدل يقضي بخفض تمويل برامج الرعاية الاجتماعية مثل “ميديكيد” و”سناب”، مقابل توسيع الإنفاق على الدفاع وأمن الحدود. بعيدًا عن الخطابات السياسية، فإن ما يعنيه هذا القانون فعليًا هو أن نحو 12 مليون أميركي قد يفقدون التغطية الصحية، معظمهم من الفئات الأكثر ضعفًا: كبار السن، ذوو الإعاقة، الأطفال، وسكان المناطق الريفية. وتشير الدراسات إلى أن هذه التخفيضات قد تؤدي إلى زيادة في عدد الوفيات تصل إلى 51,000 سنويًا بسبب تراجع الوصول إلى الرعاية الطبية.

لكن الأثر لا يتوقف عند الأفراد، بل يمتد إلى المؤسسات نفسها، حيث يهدد هذا التراجع مئات الآلاف من الوظائف في قطاع الرعاية الصحية، كما تُنذر مستشفيات بالإغلاق في ولايات بأكملها. الأمر الذي دفع الجمهوريين لإدراج مخصصات طارئة بقيمة 50 مليار دولار لدعم المستشفيات الريفية، في محاولة لاحتواء التداعيات الاجتماعية والاقتصادية.

هذا الجدل حول دور الدولة لا يقتصر على أميركا، بل امتد إلى بريطانيا، حيث تواجه حكومة المحافظين – بقيادة شخصيات مثل كيمي بادينوك – تحديات مشابهة في موازنة الإنفاق العام وتقديم الخدمات الأساسية، وسط ضغوط متزايدة من الأسواق ومراكز الفكر النيوليبرالية. في هذا السياق، يُستحضر دائمًا صوت المفكرين الليبراليين المدافعين عن تقليص دور الدولة، وعلى رأسهم المؤرخ الاقتصادي البريطاني نيل فيرغسون، الباحث في معهد هوفر بجامعة ستانفورد، والذي يرى أن توسع الدولة والضرائب يقوّض كفاءة الاقتصاد، ويهدد الحضارة الغربية ذاتها. فهو يربط بين صعود الإمبراطوريات ومرونتها الاقتصادية، وبين انحدارها حين تصبح الدولة عبئًا مترهلًا على السوق.

ويزداد النقاش حول دور الدولة في بريطانيا، وخصوصا بعد إعلان كيمي بادينوك، زعيمة حزب المحافظين، أن الرئيس الأرجنتيني الليبرتاري خافيير ميلي هو “نموذجها”. ميلي الذي ألغى نصف وزارات حكومته فور توليه السلطة وحرر الأسواق وأوقف التمويل عن الأقاليم، يمثل بالنسبة لهم مثالًا لتقليص “الطغيان البيروقراطي” والدفع نحو دولة أخف وزنًا.

لكن هل المجتمع البريطاني مستعد لهذا النوع من الراديكالية؟ الواقع أن معظم الناخبين ما زالوا يتمسكون بالمكتسبات الاجتماعية مثل هيئة الخدمات الصحية الوطنية (NHS) والضمان الاجتماعي. كما أن الاقتصاد البريطاني، رغم التحديات، لم يصل بعد إلى حالة الأزمة الحادة التي دفعت الأرجنتينيين إلى قبول إصلاحات مؤلمة

لكن السياسات التي تُدفع بها دول العالم نحو تقليص الدولة لا تأتي من الداخل فقط، بل كثيرًا ما تُفرض من الخارج، خاصة من خلال برامج صندوق النقد الدولي. فشروط الصندوق للحصول على القروض تكاد تتطابق في كل مرة: تقليص الإنفاق الحكومي، تقليص دعم السلع والخدمات، توسعة برامج الخصخصة، فتح الأسواق أمام رأس المال الأجنبي، والحد من تدخل الدولة في الاقتصاد، خصوصًا في مجالات الصحة والتعليم والدعم الاجتماعي. ويُروج لهذه السياسات بوصفها ضرورية لتعزيز كفاءة الاقتصاد، وجذب الاستثمارات، وتحقيق الاستدامة المالية.

غير أن الواقع يظهر تعقيدات أكبر. فمثل هذه الإجراءات، وإن حسّنت بعض المؤشرات المالية، فإنها غالبًا ما تُفاقم الفجوة الاجتماعية، وتؤدي إلى تفكيك شبكات الأمان التي تحمي الفئات الأضعف. وقد أظهرت تجارب عديدة – من الأرجنتين إلى مصر إلى البرازيل – أن الخصخصة السريعة وتقليص الدولة دون بناء بدائل قوية، قد يؤديان إلى مزيد من الفقر، واحتقان اجتماعي، واضطرابات سياسية يصعب السيطرة عليها.

إن ما تشهده الولايات المتحدة وبريطانيا اليوم من تجاذبات حول دور الدولة وحجم الإنفاق الاجتماعي، لا يمكن فصله عن تحولات أعمق تطال بنية الرأسمالية ذاتها. فبينما يدفع المحافظون باتجاه تقليص الدولة وتحجيم شبكات الأمان الاجتماعي، تكشف التجارب أن سياسات الصدمة دون حماية اجتماعية قد تنجح في تحسين المؤشرات المالية، لكنها غالبًا ما تُخفق في تحسين حياة الناس.

فهل يمكن للرأسمالية أن تبقى فعّالة دون أن تكون عادلة؟ وهل الدولة عبءٌ دائم على كاهل السوق، أم أن وجودها ضرورة لضمان الحد الأدنى من الكرامة والتوازن؟ في عالم يتسارع فيه التفاوت وتزداد فيه هشاشة الطبقات الوسطى، يبدو أن الرهان الأكبر لم يعد فقط على كفاءة السوق، بل على قدرتها في التوفيق بين النمو والعدالة، وبين الربح والمسؤولية الاجتماعية.

وبينما يحذر مفكرون كـ نيل فيرغسون من توسّع الدولة، يرى آخرون أن غيابها أو تراجعها المفرط قد يفتح الباب لفراغ اجتماعي خطير، يدفع المجتمعات نحو المزيد من الانقسام، وربما الانفجار. الرأسمالية لا تموت بسهولة، لكن بقاءها اليوم مرهون بإعادة رسم العلاقة مع الدولة والمجتمع، بل وبصياغة عقد اجتماعي جديد أكثر توازنًا.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى