التضخم… حكاية كل بيت
بقلم/ د. محمد جميل الشبشيري
Elshebshiry@outlook.com
لم يكن الناس قبل سنوات يتوقعون أن تتغير حياتهم بهذه السرعة. فجأة أصبح كل شيء أغلى: السكن، الطعام، الكهرباء، وحتى أبسط الاحتياجات اليومية. وبينما يتجادل الخبراء حول التضخم وسياسات الفائدة، يجد المواطن العادي نفسه في معركة يومية مع الأسعار التي تستنزف دخله وتهدد أحلامه.
بعد جائحة كورونا، وصل التضخم في أميركا إلى ذروة تاريخية بلغت 9%. اليوم، وبعد مرور أكثر من أربع سنوات، ما يزال عند حدود 3%، وهو رقم قد يبدو منخفضاً، لكنه يخفي وراءه واقعاً مريراً من الزيادات المتراكمة التي غيرت وجه الحياة. هذا ليس مجرد رقم في تقرير اقتصادي، بل عالم كامل من القصص الإنسانية .
العمل… أجور متآكلة وفرص تتقلص
في الماضي، كانت الوظائف متاحة نسبياً، وكان من يرغب يستطيع أن يبدأ من جديد. أما اليوم، فقد تغير المشهد تماماً. الأجور، ورغم ارتفاعها اسمياً في بعض القطاعات، إلا أن قيمتها الحقيقية تتآكل بفعل التضخم المستمر. الموظف الذي يحصل على زيادة سنوية يجد أنها لا تكفي لمواكبة الارتفاع في تكاليف المعيشة، مما يضعه في ضغط مالي متواصل.
في قطاعات حيوية مثل البناء، الزراعة، والرعاية الصحية، والتي يعتمد عليها المجتمع بشكل أساسي، يشكل المهاجرون نسبة كبيرة من العمالة تصل إلى 30%. لكن حتى هذه القطاعات تعاني اليوم من نقص حاد في الأيدي العاملة، مما يجبر أصحاب العمل على البحث طويلاً عن موظفين، ويزيد من تكاليف التشغيل التي تُمرر في النهاية إلى المستهلك .
النتيجة هي حلقة مفرغة: أجور لا تكفي، وظائف شاقة لا تجد من يشغلها، وأسعار تواصل الارتفاع. الضغط على الأجور لم يعد رقماً اقتصادياً، بل أصبح معاناة يومية تعيشها الأسر في كل مكان.
منزل بعيد… رغم اقتراب الحلم
لطالما كان امتلاك منزل هو الحلم الأمريكي، لكن هذا الحلم أصبح اليوم بعيد المنال أكثر من أي وقت مضى. السوق تعاني من نقص هيكلي يقدر بنحو 5 ملايين منزل، مما يبقي الأسعار مرتفعة.
المشكلة تتعمق أكثر بسبب أسعار الفائدة. ملايين الأشخاص الذين حصلوا على قروض عقارية بفائدة منخفضة تاريخياً (أقل من 3%) قبل موجة التضخم، يجدون أنفسهم اليوم “مقيدين” في منازلهم. فبيع المنزل والانتقال يعني التخلي عن قرض ميسر ومواجهة معدلات فائدة جديدة تقترب من 7%، وهو ما يرفع تكلفة القسط الشهري بشكل هائل..
هذا “التجميد” في السوق قلل من المعروض بشكل كبير، والنتيجة واضحة للجميع: بيوت قليلة معروضة للبيع، أسعار لا يمكن تحملها، وتأجيل طويل لحلم السكن المستقر الذي يؤسس لحياة كريمة.
كهرباء تضيء العالم… وتستنزف الدخل
في عصرنا الرقمي، أصبحت الكهرباء عصب الحياة، لكنها تحولت أيضاً إلى أحد أكبر مصادر الضغط المالي. السبب ليس فقط في الاستهلاك المنزلي، بل في ثورة الذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات العملاقة التي تدعمها. هذه المراكز تستهلك اليوم ما يقارب 5% من إجمالي الكهرباء في الولايات المتحدة، ومن المتوقع أن يتضاعف هذا الرقم بحلول عام 2030.
هذا الطلب الهائل يضع ضغطاً شديداً على شبكات كهرباء قديمة ومتهالكة تحتاج إلى استثمارات بمليارات الدولارات لتحديثها. هذه التكاليف لا يتحملها عمالقة التكنولوجيا وحدهم، بل يتم تمريرها مباشرة إلى المستهلكين عبر فواتير الكهرباء المرتفعة. الزيادة لا تظهر فقط في فاتورة منزلك الشهرية، بل تنعكس في سعر كل سلعة تُصنّع أو تُنقل أو تُخزن، مما يغذي التضخم من جديد.
الدين الحكومي… فاتورة تدفعها الأجيال
بعيداً عن الأنظار، تتراكم ديون الحكومة الأمريكية لتصل إلى مستويات مقلقة. فقد تجاوز الدين العام 125% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو رقم لم نشهده منذ الحرب العالمية الثانية. والأسوأ من ذلك، أن الحكومة تنفق الآن ما يقارب 20% من إيراداتها الضريبية فقط لسداد فوائد هذا الدين، وهو مبلغ يتجاوز ميزانية الدفاع بأكملها.
هذه الأرقام لا تعني مجرد تحدٍ مالي للحكومة، بل لها تأثير مباشر على حياة المواطنين. فالحكومة التي تنفق جزءاً كبيراً من أموالها على الفوائد تجد نفسها مضطرة لتقليص الإنفاق على الخدمات الأساسية مثل البنية التحتية، التعليم، والرعاية الصحية. كما أن هذا الدين الهائل يحد من قدرة الدولة على مواجهة أي أزمات اقتصادية مستقبلية، ويجعل خياراتها أصعب، مما يترجم في النهاية إلى أسعار أعلى وخدمات أبطأ للمواطن.
وراء كل رقم… إنسان يكافح
خلف هذه الأرقام والتحليلات الاقتصادية المعقدة، تقف قصص إنسانية حقيقية تعكس حجم المعاناة:
* شاب في بداية مسيرته المهنية، يحاول جاهداً أن يدّخر لمستقبله، لكنه يرى أن راتبه يفقد قيمته أمام سباق الأسعار الذي لا يرحم.
* متقاعد أمضى حياته في العمل وادخار المال ليعيش بكرامة، واليوم يخشى أن تتبخر مدخراته وتفقد قيمتها مع مرور كل يوم.
* أسرة شابة تبحث عن منزل بسيط يؤوي أحلامها، لكنها تصطدم بواقع الأسعار المرتفعة التي تجعل الحلم مستحيلاً.
* صاحب مطعم صغير يواجه عاصفة من التحديات في وقت واحد: ارتفاع فواتير الكهرباء، زيادة أسعار المواد الغذائية، وندرة العمالة.
هذه ليست مجرد نظريات اقتصادية، بل هي حكاية كل بيت يحاول الصمود في وجه عاصفة التضخم.
كيف يمكن للناس مواجهة هذه المرحلة الصعبة؟
رغم أن المشهد يبدو معقداً، إلا أن هناك خطوات عملية يمكن للأفراد اتخاذها لبناء جدار حماية مالي:
* تنويع الاستثمارات: لا تضع كل مدخراتك في مسار واحد. التوزيع بين فئات أصول مختلفة يقلل من المخاطر.
* التركيز على الأصول الحقيقية: الاستثمار في أصول ملموسة مثل العقارات (حتى عبر صناديق الاستثمار العقاري REITs)، والسلع مثل الذهب والمعادن، والبنية التحتية، يمكن أن يوفر حماية طبيعية ضد تآكل قيمة المال.
* الاستثمار في الأسهم ذات القوة التسعيرية: اختر الشركات القوية التي تنتج سلعاً وخدمات أساسية (مثل شركات السلع الاستهلاكية) ولديها القدرة على تمرير زيادة التكاليف إلى المستهلك، مما يحافظ على أرباحها.
* تجنب السندات طويلة الأجل: هذه السندات شديدة الحساسية لارتفاع أسعار الفائدة، وقد تفقد قيمتها بشكل كبير في بيئة تضخمية.
* تطوير المهارات وزيادة الدخل: في عالم متغير، أفضل استثمار هو الاستثمار في نفسك. اكتساب مهارات جديدة أو البحث عن مصادر دخل إضافية يمكن أن يساعد في مجاراة التغيرات الاقتصادية.
ختاماً: الإنسان أقوى من الظروف
قد تبدو الأرقام ضاغطة والمستقبل غامضاً، لكن التاريخ يثبت مراراً وتكراراً أن الإنسان يمتلك قدرة مذهلة على التكيف، وإعادة ترتيب أولوياته، وتحويل أصعب التحديات إلى فرص للنمو.
التضخم قد يكون حكاية كل بيت اليوم، لكن كل بيت أيضاً يملك الإرادة والقدرة على كتابة النهاية التي تناسبه، مسلحاً بالوعي، التخطيط، والصمود.




