مقالات

أذربيجان: صعود اقتصادي يعيد تشكيل ميزان القوى في القوقاز

تفتح أذربيجان آفاق تحالفات جديدة توازن بين مصالحها مع الغرب، وعمقها الإسلامي، وعلاقاتها التجارية مع روسيا والصين.

زادت الاستثمارات الأجنبية في الصناعة والزراعة والسياحة، وتبرز الإمارات كأكبر مستثمر عربي بقيمة تفوق مليار دولار.

عززت علاقاتها مع الغرب دون التصادم مع روسيا أو إيران، وحافظت على موقع الوسيط في أزمة سوريا.

أصبحت باكو مركز ترانزيت دولي، بتشغيل الموانئ الحديثة وتوسيع السكك الحديدية والجسور البرية التي تربط آسيا بأوروبا.

تمثل السياحة حوالي 4.5% من الناتج المحلي الإجمالي بشكل مباشر.

أذربيجان باتت قوة اقتصادية حديثة العهد ذات نفوذ متنامٍ، تفرض نفسها في قلب منطقة القوقاز والجوار.

تقع أذربيجان عند تقاطع طرق التجارة التاريخية (طريق الحرير) والحديثة عبر القوقاز، وتطل على بحر قزوين وتجاور روسيا وإيران وتركيا.

تمثل أذربيجان ممراً بديلاً لطرق الشحن التقليدية، في ظل التوترات الروسية-الغربية.

اعتمدت أذربيجان على النفط والغاز لتكون قاطرة بداية النمو.

احتياطي نقدي يتجاوز 72 مليار دولار في 2025—أكبر بنحو 30 مرة مقارنة بعام 2003—ومعدل دين خارجي أقل من 7.3% من الناتج المحلي الإجمالي.

استفادت أذربيجان من هشاشة مواقف بعض جيرانها وصعود الحاجة الأوروبية لمصادر طاقة بديلة.

رغم هيمنة الطاقة، تعمل أذربيجان على تطوير القطاعات غير النفطية، مثل النقل، الزراعة، السياحة، والصناعة.

عائدات الطاقة منحت الدولة استقرارًا ماليًا وفرصة لتمويل مشاريع البنية التحتية والقوة العسكرية.

نما الناتج المحلي منذ 2003 بـ 3.4 مرة، وقفزت صادرات النفط والغاز والخدمات اللوجستية.

 

شهدت أذربيجان خلال العقدين الماضيين تحولاً جذرياً من دولة نامية تعتمد بشكل أساسي على النفط والغاز، إلى لاعب إقليمي مؤثر يتمتع باقتصاد متنوع وطموحات استراتيجية تتجاوز حدود القوقاز.  فبفضل موقعها الجغرافي الحيوي بين أوروبا وآسيا، واستثماراتها الضخمة في البنية التحتية والطاقة والتكنولوجيا، بدأت باكو ترسم ملامح جديدة لنفوذ اقتصادي متصاعد يعيد تشكيل موازين القوى الإقليمية.

 

 ما هي العوامل التي تجعل أذربيجان لاعبًا إقليميًا صاعدًا

ليس من المبالغة القول إن أذربيجان باتت قوة اقتصادية حديثة العهد ذات نفوذ متنامٍ، تفرض نفسها في قلب منطقة القوقاز والجوار—وتحوّل نفسها من لاعب هامشي إلى “مُعِدّل معادلات” على خارطة الاقتصاد والسياسة في أوراسيا والشرق الأوسط. فما هي أسرار التجربة الأذربيجانية؟ وكيف غيّر النفط والغاز والسياسات الاقتصادية الذكية موقعَ البلاد من الأطراف إلى قلب الحدث الإقليمي والعالمي؟  تستند مكانة أذربيجان الحالية كلاعب إقليمي صاعد إلى منظومة متداخلة من العوامل الجيوسياسية والاقتصادية والدبلوماسية جعلتها محورًا مهمًا في تحولات منطقة القوقاز وما حولها. ويمكن تلخيص أبرز تلك العوامل كالتالي:

1- الموقع الجغرافي الاستراتيجي

تقع أذربيجان في مفترق طرق بين آسيا وأوروبا، وتحاذي روسيا وإيران وتركيا وأرمينيا، ولديها منفذ على بحر قزوين. هذا جعلها مفترقًا مهمًا لخطوط الطاقة والطرق التجارية، خاصة مشاريع باكو-تبليسي-جيهان لنفط بحر قزوين وخط غاز جنوب القوقاز الذي يربط آسيا الوسطى بأوروبا.  منذ الاستقلال عام 1991 عن الاتحاد السوفيتي، أدركت باكو أهمية استثمار الموارد والموقع لتصبح حلقة وصل للطاقة والتجارة بين الشرق والغرب.

* النمو السريع: نما الناتج المحلي منذ 2003 بـ 3.4 مرة، وقفزت صادرات النفط والغاز والخدمات اللوجستية.

* الاحتياطيات الضخمة: احتياطي نقدي يتجاوز 72 مليار دولار في 2025—أكبر بنحو 30 مرة مقارنة بعام 2003—ومعدل دين خارجي أقل من 7.3% من الناتج المحلي الإجمالي.

* تراجع الفقر: انخفضت معدلات الفقر من 49% سنة 2001 إلى أقل من 5% اليوم؛ وتضاعف دخل الأفراد 6 مرات خلال عقدين.

 

2- الثروة النفطية والغازية

تعتبر أذربيجان من كبار منتجي النفط والغاز في المنطقة، وتشرف على تصدير مواردها عبر شبكة أنابيب عملاقة إلى الأسواق الأوروبية والآسيوية، ما عزز نفوذها كمصدر بديل للطاقة خاصة في ظل أزمات إمدادات الغاز الروسي لأوروبا. عائدات الطاقة منحت الدولة استقرارًا ماليًا وفرصة لتمويل مشاريع البنية التحتية والقوة العسكرية.  اعتمدت أذربيجان على النفط والغاز لتكون قاطرة بداية النمو، فكانت تملك قرابة 60% من الناتج المحلي من القطاع النفطي والغازي، وتنقل إنتاجها الدولي عبر خطوط مثل باكو-تبليسي-جيهان إلى أوروبا والعالم.  لكن الأهمية الاستراتيجية للبلاد زادت بعد غزو روسيا لأوكرانيا وبدء أزمة الطاقة الأوروبية، إذ برزت أذربيجان كمورد بديل موثوق، فارتفعت صادرات الغاز الأذربيجاني إلى أوروبا عبر “ممر جنوب القوقاز” وخطوط الترانزيت.

* نمو غير نفطي متسارع: بلغ نمو القطاعات غير النفطية 6.4% في 2024 و3.9% خلال 2025، مقابل انكماش النفط والغاز.

* تنويع مصادر الدخل: وضعت الدولة خطة اقتصادية لرفع حصة القطاعات غير النفطية ضمن الناتج، لتصل إلى ما يفوق 40% عبر دعم الصناعة والسياحة والتكنولوجيا والزراعة.

 

3- السياسة الخارجية النشطة والتوازنات الذكية

اتبعت باكو سياسة خارجية متعددة الاتجاهات؛ عززت علاقاتها مع تركيا ودول مجلي التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي، مع الحفاظ على علاقات عملية مع روسيا وإيران. استفادت أذربيجان من خلافاتها وحدودها مع جيرانها لتلعب أدوار الوساطة أحيانًا (بين روسيا وأوكرانيا، وبين إيران ودول أخرى)، وسعت لتثبيت نفسها كطرف إقليمي مأمون وقادر على الموازنة بين قوى متصارعة.

4- تحديث الاقتصاد وتنويعه

رغم هيمنة الطاقة، تعمل أذربيجان على تطوير القطاعات غير النفطية، مثل النقل، الزراعة، السياحة، والصناعة. استقطبت استثمارات أجنبية وأقامت شراكات كبرى مع الشركات العالمية، وتقدمت في مؤشرات التنافسية وسهولة ممارسة الأعمال، ونجحت في خفض الفقر وتعزيز الاستقرار النقدي.  نجحت أذربيجان في السنوات الأخيرة في تحديث بنيتها التحتية عبر استثمارات ضخمة:

* النقل واللوجستيات: أصبحت باكو مركز ترانزيت دولي، بتشغيل الموانئ الحديثة وتوسيع السكك الحديدية والجسور البرية التي تربط آسيا بأوروبا.

* استثمارات السياحة: تمثل السياحة حوالي 4.5% من الناتج المحلي الإجمالي بشكل مباشر، وسط تطلعات برفعها إلى 15% في عشر سنوات، من خلال خطط طموحة وجذب السائح الخليجي خاصة.

* تسهيل التجارة الإقليمية: تمثل أذربيجان ممراً بديلاً لطرق الشحن التقليدية، في ظل التوترات الروسية-الغربية، فقفزت قيمة مشاريعها اللوجستية والتجارية وأصبحت محط قمة التعاون الاقتصادي الإقليمي في 2025.

 

5- تحديث القدرات العسكرية والدفاعية

بعد انتصارها في استعادة قره باغ، رفعت أذربيجان ميزانيتها الدفاعية وطورت صناعات عسكرية وشراكات أمنية مع تركيا و وباكستان، مما رفع قدرتها على حماية مصالحها وتأمين مشاريع الطاقة الحيوية والممرات التجارية، كما دفع بدول الجوار لأخذ حضورها بجدية أكبر.

6- الدبلوماسية الاقتصادية الإقليمية

تستثمر أذربيجان في المشاركة في مشاريع إقليمية عابرة للحدود (مثل مبادرة طريق الحرير الجديد)، وعززت دورها كمحور للترانزيت بين الشرق والغرب. كما شجعت الاستثمارات الخليجية والأجنبية، وطرحت نفسها كوجهة سياحية وتجارية واعدة للعالم الإسلامي والأسواق الأوروبية.  اتخذت باكو سلسلة إصلاحات مؤسسية وهيكلية منذ 2014:

* ضبط العجز المالي: رغم ارتفاع الإنفاق الحكومي على الدفاع وإعمار كاراباخ، يبلغ العجز المتوقع 2.4% فقط من الناتج المحلي في 2025.

* تسارع الاستثمارات: زادت الاستثمارات الأجنبية في الصناعة والزراعة والسياحة، وتبرز الإمارات كأكبر مستثمر عربي بقيمة تفوق مليار دولار، فيما تنشط شركات خليجية وتركية وروسية وصينية في السوق.

* تقدم مؤشرات التنافسية: ارتفعت أذربيجان 64 مركزًا في مؤشر “سهولة ممارسة الأعمال” منذ 2008.

 

7- استثمار اللحظة الإقليمية والدولية والدور الجيوسياسي والتأثير في ملفات الإقليم:

استفادت أذربيجان من هشاشة مواقف بعض جيرانها وصعود الحاجة الأوروبية لمصادر طاقة بديلة. ورغم تعقيدات الإقليم التاريخية (صراعات مع أرمينيا، وتشابك مع المصالح الروسية والإيرانية)، نجحت في تحويل التحديات لفرص ترفع من وزنها الإقليمي وتنوع شبكة تحالفاتها.

* الطاقة سلاح نفوذ: الاستفادة القصوى من الموارد عززت قدرة أذربيجان على فرض نفسها شريكًا رئيسيًا لأوروبا وتركيا وإسرائيل، بعقود نفط وغاز استراتيجية حساسة.

* دبلوماسية متوازنة: عززت علاقاتها مع الغرب دون التصادم مع روسيا أو إيران، وحافظت على موقع الوسيط في أزمات سوريا، ودعمت إعادة إعمار كاراباخ لتوسيع الحضور الإقليمي.

* الأمن والاستقرار: عززت ميزانيتها الدفاعية لأكثر من 8.5 مليار مانات في 2025، مع أولوية للتنمية المستدامة والأمن الغذائي.

في المجمل: أذربيجان لاعب جديد بثقل كبير

أذربيجان تصعد اليوم في المشهد الإقليمي بفضل منهج سياسي وبراغماتي يعتمد على موارد الطاقة، وموقع جغرافي محوري، وتعددية في العلاقات والشراكات العابرة. استقرارها المحلي وتقدمها الاقتصادي وقدرتها على اللعب الذكي بين القوى الكبرى عززا من حضورها لاعبًا صاعدًا من الصعب تجاهله في توازنات آسيا الوسطى والشرق الأوسط والقوقاز.

لا تقف قوة أذربيجان الاقتصادية عند حدود الطاقة.  فالحكومة تبنت خلال السنوات الأخيرة استراتيجية تنويع اقتصادي جادة، شملت دعم قطاعات الزراعة، السياحة، النقل، والتكنولوجيا. كما أن “ممر زانجيزور” الذي تسعى باكو إلى تنفيذه بالتعاون مع تركيا وآسيا الوسطى، قد يتحول إلى ممر تجاري دولي يُعزز مكانة البلاد كمركز لوجستي حيوي في قلب أوراسيا.

ولا يمكن إغفال الأبعاد الجيوسياسية لهذا الصعود. فمع تصاعد الدور التركي وتراجع تأثير بعض القوى التقليدية في المنطقة، تفتح أذربيجان لنفسها آفاق تحالفات جديدة توازن بين مصالحها مع الغرب، وعمقها الإسلامي، وعلاقاتها التجارية مع روسيا والصين. كما أن إعادة إعمار إقليم “قره باغ” بعد الحرب الأخيرة، تمثل فرصة استراتيجية لإظهار قدرة الدولة على بناء نموذج اقتصادي فعال في المناطق المتأثرة بالنزاعات.

أذربيجان اليوم دولة فتية بطموحات كبيرة. جمعت بين الرؤية الاقتصادية، واستغلال موقعها ومعادنها، وحنكة السياسة الخارجية—فحجزت مقعدها في نادي اللاعبين المؤثرين.
دربها نحو “القوة الاقتصادية الإقليمية” لا يخلو من العواصف، لكنه مرصوف بالإنجازات، مدعوم باحتياطيات مالية قوية، واستثمارات عابرة للقطاعات، وسياسة توازن غير تقليدية… الأمر الذي يؤهلها لمواصلة الصعود وفرض نفسها كرقم صعب في موازين التنمية والنفوذ في آسيا الوسطى والشرق الأوسط.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى