دور التدقيق الداخلي في وظيفة التسويق والمبيعات: شريكٌ ذكي لنمو الأعمال
بقلم : محمد عثمان – مدير تدقيق داخلي
CPA,CIA,CMA,CRMA,CISA,CRISC,CERM,CFE, PMP,PBA
في سلسلتنا حول “التدقيق الداخلي كشريك استراتيجي”، تناولنا سابقًا كيف يُضيف التدقيق قيمة حقيقية لوظيفة الموارد البشرية. واليوم، ننتقل إلى قلب المحرك التجاري لأي شركة: وظيفة التسويق والمبيعات.
الناس ترى التسويق والمبيعات نشاط إبداعي. إعلان جميل. فكرة مختلفة. حملة لافتة.
هذا جزء واحد فقط.
الجزء الآخر أرقام وميزانيات وموافقات وعقود وخصومات وهدايا وعلاقات مع موردين وجهات خارجية. هنا تحدث الأخطاء. هنا يظهر الهدر. هنا تظهر المخاطر النظامية والسمعة إذا لم توجد رقابة واضحة.
دور التدقيق الداخلي في هذا المكان ليس إيقاف الحملات. وليس تعطيل فرق العمل. دوره أن يتأكد من أن كل دينار صُرف على حملة أو عرض أو رعاية له مبرر مكتوب. وله موافقة. وله نتيجة متوقعة. ويمكن قياسه لاحقا.
التدقيق الداخلي يساعد الإدارة على رؤية ما لا يظهر في التقارير التسويقية. مثل تكرار صرف مبالغ صغيرة تتراكم. أو اعتماد نفس المورد دون منافسة. أو تقديم خصومات غير موثقة. أو استخدام قواعد بيانات عملاء دون ضوابط. هذه نقاط ضعف يمكن أن تتحول إلى خسارة أو مخالفة.
تطوير المنتج Product Development: من الفكرة إلى السوق… بذكاء
كل منتج ناجح يبدأ بفكرة مبتكرة، لكن الفكرة وحدها لا تكفي. فالتحدي الحقيقي هو: هل هذا المنتج يُلبّي حاجة فعلية لدى العملاء؟ وهل سيشترونه فعلاً؟
بدون تخطيط دقيق، قد تستثمر الشركة آلاف الدنانير في تطوير منتج باهظ، فقط لتكتشف لاحقًا أن السوق لا يحتاجه أو أن المنافسين سبقوها إلى إطلاق شيء مشابه.
هنا يدخل التدقيق الداخلي ليس كعائق، بل كشريك استراتيجي في رحلة التطوير. فهو يساعد الفريق على التأكد من أن:
قرارات التطوير مبنية على دراسات سوق حقيقية (وليس مجرد حدس)،
الميزانية تحت السيطرة، ولا تُنفق أموال دون مبرر،
خطة الإطلاق واضحة ومرنة، وتُراعي توقيت السوق.
مثال: شركة ما طوّرت جهازًا ذكيًّا بتكلفة عالية، لكنها لم تجرِ دراسة كافية لاحتياجات العملاء. وبعد الإطلاق، اتضح أن 80% منهم لا يستخدمون إحدى الميزات الأساسية في الجهاز—وهي الميزة التي شكّلت جزءًا كبيرًا من التكلفة! لو تم مراجعة الخطة مبكرًا من قبل فريق التدقيق الداخلي، لكان من الممكن تجنب هذا الهدر، وتوجيه الموارد نحو ما يهم العميل فعلاً.
باختصار، التدقيق الداخلي لا يُعيق الابتكار، بل يوجّهه ليحقق نتائج فعلية فيقلل الهدر، ويحمي الاستثمار، ويزيد فرص نجاح المنتج في السوق.
بحوث السوق Market Research: لا تُنفق آلاف الدنانير قبل أن تعرف ماذا تريد
البحث التسويقي هو أداة حيوية لأي شركة تسعى لفهم عملائها واتخاذ قرارات ذكية. لكنه قد يتحول من استثمار إلى هدر إذا لم يُدار بعناية.
من أبرز المخاطر: الاعتماد على بيانات قديمة، أو معلومات غير دقيقة، أو التعاقد مع جهة بحث لا تفهم خصوصية السوق الكويتي—فتُنفق ميزانية كبيرة على نتائج لا تُجدي نفعًا.
هنا يلعب التدقيق الداخلي دورًا عمليًّا: فهو لا يمنعك من إجراء بحث السوق، بل يتأكد من أن:
الجهة التي تُجري البحث مؤهلة وذات خبرة في السوق المحلي،
الأسئلة المطروحة تخدم أهدافك الفعلية (مثل تطوير منتج أو إطلاق حملة)،
الإنفاق مبرر، والنتائج قابلة للتطبيق على أرض الواقع.
مثال: شركة ما دفعت مبلغًا كبيرًا لجهة بحث أجنبية، لكن التقرير الذي تلقّته كان عامًّا جدًّا ولا يعكس سلوك المستهلك في الكويت. لو تم استشارة فريق التدقيق الداخلي مسبقًا، لاقترح إجراء اختبار أولي على عيّنة محلية بتكلفة أقل—ليتأكد من جدوى البحث قبل الالتزام بمبلغ كبير.
الخلاصة؟ التدقيق الداخلي لا يوقف الإنفاق… بل يضمن أن كل دينار يُنفق يُجيب على سؤالٍ مهم، ويقود إلى قرارٍ أفضل.
الإعلان والترويج Promotion and Advertising: الإنفاق الذكي أهم من الإنفاق الكبير
الإعلانات قد تبدو وسيلة سهلة لجذب العملاء، لكنها غالبًا ما تكون مكلفة—والأهم من ذلك: ليست كل حملة إعلانية تُحقّق عائدًا. قد تُنفق آلاف الدنانير دون أن ترى أثرًا على المبيعات، خاصة إذا لم تُوجّه الرسالة إلى الجمهور الصحيح أو لم تُدار النفقات بدقة.
من أبرز المخاطر:
اختيار وسيلة إعلانية (مثل قناة تلفزيونية أو منصة رقمية) لا يستخدمها جمهورك المستهدف فعليًّا،
دفع فواتير مكررة أو غير موثّقة لوكالة إعلانات،
إطلاق حملات دون تحديد أهداف واضحة أو وسيلة لقياس نتائجها.
هنا يتدخل التدقيق الداخلي ليس ليقول “لا للإعلان”، بل ليضمن أن كل دينار يُنفق يُحقّق هدفًا ملموسًا. فهو يتحقق من أن:
الحملة معتمدة رسميًّا ومتوافقة مع خطة التسويق،
جميع المصاريف موثّقة وتدفع مقابل خدمات فعلية،
أداء الحملة يُقاس بعد التنفيذ (مثل عدد العملاء الجدد أو الزيادة في المبيعات).
مثال: أطلقت شركة ما حملة إعلانية باهظة على قناة تلفزيونية، لكن المبيعات لم ترتفع. عند المراجعة، اتضح أن جمهور القناة لا يتطابق مع شريحة عملاء الشركة. لو تم تحليل هذه المعلومة مسبقًا—وهو ما يفعله التدقيق الداخلي عادةً—لتم توجيه الميزانية إلى وسيلة أكثر فاعلية، مثل منصات التواصل الاجتماعي أو الإعلانات المحلية.
الخلاصة؟ التدقيق الداخلي لا يُضعف فعالية الإعلان، بل يضمن أن الميزانية الترويجية تُنفق على القنوات التي يتفاعل معها الجمهور المستهدف فعليًّا—وليس على جهود لا تصل إلى من نريد.
التسعير والخصومات Pricing and Discount Policies: التوازن بين الجاذبية والربح
قد تظن أن التسعير يبدأ وينتهي بوضع سعر أعلى من التكلفة، لكن الحقيقة أنه قرار استراتيجي حساس. فسعر المنتج يؤثر على جاذبيته للعملاء، والقدرة على المنافسة، و الارباح الصافية في نهاية الفترة المالية.
المشكلة تظهر عندما تُمنح خصومات دون ضوابط—مثل أن يمنح موظف مبيعات خصمًا كبيرًا لعميل “مهم” دون موافقة رسمية، أو تُطبّق أسعار خاطئة في الفواتير بسبب غياب الرقابة. النتيجة؟ أرباح تتبخر، أو نزاعات مع عملاء بسبب فروقات غير مبررة.
هنا يلعب التدقيق الداخلي دورًا وقائيًّا وعمليًّا:
يراجع سياسات التسعير لضمان وضوحها وملاءمتها للسوق،
يتأكد من أن كل خصم يُمنح مُصرّح به وموثّق،
يتحقق من تطابق الأسعار المطبّقة في الفواتير مع السياسة المعتمدة.
مثال: في إحدى الشركات، منح موظف مبيعات خصمًا غير مصرّح به لعميل كبير، ظنًّا منه أنه “يُرضي العميل”. النتيجة؟ خسارة بلغت آلاف الدنانير في ربع واحد فقط. التدقيق الداخلي كشف هذه الثغرة، واقترح فصل صلاحيات الموافقة—أي أن من يُعدّ العرض لا يُصرّح بالخصم، ومن يُصرّح لا يُنفّذه—لضمان الشفافية ومنع التكرار.
الخلاصة؟ التدقيق الداخلي لا يمنعك من منح خصومات… بل يضمن أن كل خصم يُمنح بوعي، ويُسجّل بشفافية، ولا يُهدّد ربحيت…
ما بعد البيع After sales support : ليست تكلفة… بل استثمار في ولاء العميل
كثير من الشركات تنظر إلى خدمات ما بعد البيع مثل الضمان، الصيانة، وقطع الغيار—على أنها نفقات إضافية. لكن الحقيقة أنها من أقوى الفرص لتحويل عميل عادي إلى عميل دائم يثق بعلامتك ويعود إليك مرارًا.
لكن دون إدارة جيدة، قد تتحول هذه الفرصة إلى خسارة:
تقديم خدمات ضمان دون تسجيل أو توثيق، فيصعب تتبع التكاليف أو اكتشاف الأنماط غير الطبيعية،
فقدان قطع غيار باهظة من المخزن بسبب ضعف الرقابة،
تجاهل شكاوى العملاء أو تأخير حلها، مما يُضعف سمعة الشركة حتى لو كان المنتج جيدًا.
هنا يُضيف التدقيق الداخلي قيمة فعلية:
يراقب تكاليف خدمات ما بعد البيع لضمان كفاءتها،
يتأكد من أن كل خدمة تُقدّم موثّقة (من يطلبها؟ ما سببها؟ كم تكلفتها؟)،
يتحقق من أن شكاوى العملاء لا تُهمَل، بل تُتابع وتُحلّ في وقتها.
مثال: شركة ما لاحظت ارتفاعًا في طلبات الضمان، لكنها لم تحلّل الأسباب. بعد أشهر، اكتشفت أن هناك عيبًا تصنيعيًّا أثّر على آلاف الوحدات—ما كلّفها مبالغ طائلة في الإصلاحات وتعويضات العملاء. لو كان فريق التدقيق الداخلي راجع بيانات الضمان مبكرًا، لكان اكتشف النمط غير الطبيعي، وأبلغ الإدارة قبل تفاقم المشكلة، مما كان سيقلّل الخسائر ويحمي سمعة العلامة.
الخلاصة؟ التدقيق الداخلي لا يتدخل بعد فوات الأوان… بل يساعد على رؤية المشكلة قبل أن تصبح أزمة، ويحوّل خدمات ما بعد البيع من بند مصاريف إلى جسرٍ للثقة والولاء.
الخلاصة النهاية: التدقيق ليس عائقًا… بل جسرٌ للثقة والكفاءة
في بيئة تنافسية مثل الكويت، حيث تزداد متطلبات العملاء وتشدّد الجهات الرقابية، لم يعد التدقيق الداخلي “وظيفة رقابية تقليدية”. بل هو شريك استراتيجي يضمن أن وظيفة التسويق والمبيعات تعمل بكفاءة، شفافية، وامتثال.
الهدف ليس منع الإبداع، بل توجيهه. ليس اكتشاف الأخطاء فقط، بل بناء أنظمة تمنع حدوثها من الأساس.
وفي عالم يُقاس فيه النجاح بالعائد على الاستثمار، فإن التدقيق الداخلي يضمن أن كل دينار يُنفق في التسويق والمبيعات يعود بقيمة حقيقية — للشركة، وللعملاء، وللاقتصاد الوطني.
المقال جزء من سلسلة “التدقيق الداخلي كشريك استراتيجي”، التي تستعرض دور التدقيق عبر الوظائف الأساسية في المؤسسة، بغض النظر عن القطاع.



