مقالات

“مخاطر الامتثال في اقتصاد منفتح” … ما وراء “الأوراق السليمة” و”الأخطاء الصامتة”

 

بقلم: عمرو علاء

مسؤول مطابقة والتزام

في عصر العولمة المالية، لم يعد الانفتاح الاقتصادي مجرد خيار تنموي، بل أصبح ضرورة حتمية للنمو وجذب الاستثمارات العابرة للحدود، ولكن ومع كل نافذة تفتح للتجارة والتدفقات النقدية، تفتح معها ثغرات محتملة لمخاطر لم نعهدها من قبل.

الحقيقة التي يجب أن نواجهها هي أن الخطر في الاقتصادات المنفتحة لم يعد يأتي من “خارج” النظام فحسب، بل أصبح ينمو ويتسلل بهدوء من “داخله”، عبر حركة المال السريعة وتشابك المصالح الدولية.

 فخ : “الشرعية الظاهرية” وعمى الأدوات التقليدية

في البيئة الاقتصادية المنفتحة لا تظهر مخاطر الامتثال بشكل فج أو صادم، هي لا تأتي دائماً في صورة حقائب أموال مشبوهة، بل تتسلل عبر معاملات تبدو مشروعة تماماً، وشركات مسجلة قانونياً، وعلاقات تجارية عريقة لا تثير الشبهات للوهلة الأولى.

هنا تكمن “المخاطرة الصامتة” حيث يعجز الفحص التقليدي الذي يركز على “شكل” المعاملة عن كشف “جوهرها”، إن الاعتماد المفرط على الأنظمة الآلية ومطابقة الأسماء فقط، دون تحليل السياق الاقتصادي للعملية، يجعل المؤسسات المالية تعيش في وهم الأمان، بينما هي في الحقيقة ممر لعمليات غسل أموال أو تمويل انتشار تسلح معقدة.

الامتثال الشكلي: العدو الخفي للاستقرار المالي

أحد أخطر التحديات التي تواجه الاقتصادات المنفتحة هو ما أسميه “الامتثال الشكلي”، وهو وجود سياسات مكتوبة، ونماذج “اعرف عميلك” مكتملة البيانات، وتقارير دورية ترفع للإدارة العليا توحي بأن كل شيء تحت السيطرة.

بيد أن الواقع قد يكون مغايراً فهذا النوع من الامتثال يحمي “الموظف” قانونياً لكنه لا يحمي “المؤسسة” أو “الدولة” استراتيجياً، إن وجود ملف مكتمل الأوراق لشركة واجهة (Shell Company) هو امتثال شكلي، لكنه في الحقيقة فشل ذريع في كشف المستفيد الفعلي (UBO) الذي قد يكون كياناً محظوراً أو جهة تمويل غير مشروعة.

السمعة السيادية: عندما يتحول “الامتثال” إلى أصل مالي

في سوق منفتح ومؤثر كالسوق الكويتي لم تعد السمعة مجرد “صورة ذهنية”، بل هي أصل اقتصادي ملموس يؤثر على التقييم السيادي للدولة وتكلفة الاقتراض وجاذبية الاستثمار الأجنبي.

إن أي اختراق في منظومة الامتثال داخل مؤسسة واحدة قد يمتد كقطع الدومينو ليؤثر على ثقة الشركاء الدوليين في النظام المالي ككل، لذا فإن الدور الذي تلعبه وحدات الامتثال اليوم يتجاوز “منع المخالفة” إلى “حماية السيادة الاقتصادية”، وضمان عدم استغلال الانفتاح التجاري الكويتي ليكون معبراً لأموال تضر بالأمن القومي العالمي.

 التحول نحو “الامتثال الذكي”: الاستباق لا رد الفعل

المنهج الذي يصلح لاقتصاد مغلق لا يمكن أن ينجح في اقتصاد منفتح.، نحن بحاجة إلى الانتقال من “الامتثال الدفاعي” إلى “الامتثال الذكي” ، الإنتقال من الامتثال الذي ينتظر وقوع المشكلة ليبلغ عنها الى المتثال القائم على الفهم العميق لسلاسل التوريد، ليس فقط من باع ومن اشترى، بل لماذا تمت المعاملة بهذه القيمة وفي هذا التوقيت.

الحوكمة النشطة: خروج ملف الامتثال من مكاتب الفنيين إلى طاولات مجالس الإدارة كبند استراتيجي دائم.

“لقد انتهى الزمن الذي كان يُنظر فيه إلى وحدة الامتثال كـ ‘جزيرة منعزلة’ أو مجرد مركز تكلفة وظيفته استيفاء المتطلبات الرقابية بعيداً عن أعين الإدارة العليا، في الاقتصاد المنفتح تصبح الحوكمة النشطة هي الضمانة الوحيدة لسلامة المؤسسة وهذا يعني بالضرورة تحويل ملف الامتثال من مجرد تقارير فنية جافة إلى بند استراتيجي دائم على طاولة مجلس الإدارة.

إن انخراط أعضاء مجلس الإدارة في فهم طبيعة مخاطر الامتثال ليس رفاهية، بل هو جوهر الحوكمة. فعندما تُناقش مخاطر غسل الأموال أو تمويل انتشار التسلح في أعلى هرم السلطة داخل المؤسسة، تترسخ ‘ثقافة الامتثال’ في كافة المستويات الوظيفية، هذا الانتقال يضمن توفير الموارد اللازمة، ويمنح مسؤولي الامتثال الصلاحيات الكافية للتدخل في القرارات التجارية الكبرى، مما يمنع تقديم الأرباح قصيرة الأجل على حساب استدامة المؤسسة وسمعتها الدولية.”

التحليل البشري المعمق: الذي يكمل دور التكنولوجيا ولا يستبدل بها، لربط النقاط المنعزلة واكتشاف الأنماط المشبوهة.

رغم القفزات الهائلة في تقنيات الذكاء الاصطناعي وأنظمة المراقبة الآلية، إلا أن هذه الأدوات تظل ‘عمياء’ ما لم يوجهها تحليل بشري معمق، التكنولوجيا بارعة في رصد العمليات المتكررة أو تجاوز الحدود المالية، لكنها غالباً ما تفشل في فهم ‘السياق الإنساني والتجاري’ المعقد الذي يحرك الجرائم المالية الحديثة.

إن الدور الحقيقي لمسؤول الامتثال اليوم ليس في مراجعة التنبيهات الآلية فحسب، بل في ربط النقاط المنعزلة التي قد تبدو غير مترابطة للنظام الإلكتروني، إننا لا نستبدل التكنولوجيا، بل نكملها بالحدس المهني والخبرة الميدانية لاكتشاف الأنماط المشبوهة التي تختبئ خلف ستار الصفقات القانونية، فالعقل البشري يظل هو الوحيد القادر على كشف ذكاء المجرمين وتلاعبهم بالأنظمة.

عزيزي القارئ..

دورك في هذه المنظومة يتجاوز حدود التوقيع على الأوراق أو تعبئة النماذج، وعيك بأن كل معلومة تدققها وكل “مستفيد حقيقي” تبحث عنه هو لبنة في جدار حماية سمعة بلدك، في عالم اليوم لا يرحم النظام المالي العالمي “الأخطاء الصامتة” والامتثال الحقيقي هو ذلك الذي يصون سوقنا ويحمي اقتصادنا قبل أن تقع الأزمة، وليس بعد فوات الأوان.

 

“في الاقتصاد المنفتح.. الامتثال ليس قيداً على الحركة، بل هو حزام الأمان الذي يسمح لنا بالانطلاق نحو العالمية بثقة”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى