مقالات

الطاقة بين أميركا وأوروبا… شريان حياة أم ورقة نفوذ؟

بقلم – ليما راشد الملا

مع كل أزمة سياسية أو صراع عسكري، يزداد العالم اضطراباً وتوتراً، ولكن يبقى ملف الطاقة أحد أهم أوراق الضغط والتفاوض. ومن هذا الباب جاء تصريح وزير الطاقة الأميركي كريس رايت، حين طالب أوروبا بتكثيف مشترياتها من الطاقة الأميركية، مؤكداً أن واشنطن ستبقى “مورّداً رئيسياً موثوقاً”. قد يبدو التصريح للوهلة الأولى اقتصادياً صرفاً، لكنه في العمق يؤكد شبكة مصالح معقّدة تتجاوز لغة الأرقام لتطال حياة المواطن العادي، بين بيت يحتاج للتدفئة ومصنع ينتظر استمرارية الإنتاج.

 

هل تملك أوروبا بدائل حقيقية أم أن خياراتها تبقى محدودة؟

منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا وما تبعها من عقوبات متبادلة بين روسيا والغرب، فقدت أوروبا مورّدها التقليدي من الغاز الروسي الذي كان يشكّل أكثر من 40% من احتياجاتها. فجأة وجدت القارة العجوز نفسها في مأزق: كيف تؤمّن طاقتها بعيداً عن موسكو؟ البدائل كانت محدودة، ومكلفة في الوقت نفسه.

توجّهت الأنظار نحو الولايات المتحدة التي سرعان ما عزّزت صادراتها من الغاز الطبيعي المسال (LNG) إلى أوروبا. فالموانئ الأميركية على خليج المكسيك تحوّلت إلى بوابة إنقاذ، والسفن العملاقة تحمل شحنات الغاز عبر الأطلسي لتصل إلى موانئ فرنسا وألمانيا وهولندا. الأرقام هنا ليست بسيطة: فقد ارتفعت صادرات الغاز الأميركي إلى أوروبا أكثر من 150% منذ 2022، وهو ما جعل أميركا المورّد الأول للقارة متجاوزة روسيا وقطر.

 

هل أصبحت الثقة مورداً نادراً في أسواق الطاقة؟

لكن المسألة ليست مجرد تجارة. عندما يتحدث الوزير الأميركي عن أن بلاده “مورد موثوق”، فهو يلمّح إلى عنصر أصبح عملة نادرة: الثقة في الاستقرار. فأوروبا لا تحتاج فقط إلى الغاز أو النفط، بل إلى ضمانات بأن هذا المورد لن يتوقف فجأة بسبب خلاف سياسي أو نزاع جيوستراتيجي.

فالاقتصاد الحديث هشّ أمام أي صدمة. انقطاع إمدادات الطاقة ولو لأيام يرفع الأسعار، يوقف المصانع، ويُربك الأسواق المالية. ومن ثم، فإن سعي واشنطن لتقديم نفسها كمصدر جدير بالثقة يعطي الأوروبيين نوعاً من الطمأنينة، ولو كان ثمنها أعلى من الناحية المالية مقارنة بالغاز الروسي الأرخص تاريخياً.

 

هل يمكن أن تُروى الطاقة كحكاية إنسانية لا كأرقام جامدة؟

وراء هذه الأرقام الجافة، هناك حكايات إنسانية لا تُحصى. فكل عقد توريد جديد يعني بيتاً أوروبياً لن يُطفأ فيه المدفأة في الشتاء، ومستشفى لن ينقطع عنه التيار الكهربائي، ومصنعاً سيواصل إنتاجه فلا يفقد العمال وظائفهم. الطاقة، بهذا المعنى، ليست مجرد سلعة في جداول التجارة الدولية، بل شريان حياة للمجتمعات.

حين تعلن ألمانيا مثلاً أنها خزّنت كميات كافية من الغاز لتأمين الشتاء، فإن الخبر لا يعني فقط راحة للمستثمرين، بل راحة لملايين العائلات التي تخشى البرد. وحين تتعاقد فرنسا مع الشركات الأميركية على استيراد الغاز المسال، فإن الاتفاقية لا تُترجم فقط بأرقام في ميزانية الدولة، بل بدفء في غرفة طفل صغير.

 

إلى أي مدى تتحكم السياسة والاستراتيجية في رسم ملامح سوق الطاقة؟

مع ذلك، لا يمكن فصل المسألة عن بعدها السياسي. فزيادة اعتماد أوروبا على الطاقة الأميركية تعني بالضرورة تعزيز النفوذ الأميركي داخل القرار الأوروبي. فمن يتحكم بمصدر الطاقة يملك ورقة ضغط لا يُستهان بها. واشنطن تدرك هذه المعادلة جيداً، وتسعى لتثبيت مكانتها كمصدر رئيسي مقابل روسيا من جهة، ومنافسة قطر والنرويج من جهة أخرى.

لكن هذه المعادلة تحمل أيضاً مخاطر. فأوروبا، التي تحاول جاهدة تنويع مصادرها وعدم الارتهان لطرف واحد، قد تجد نفسها تدريجياً تحت مظلة الاعتماد الأميركي، وهو ما يثير نقاشات داخلية حول الاستقلالية والسيادة في ملف الطاقة.

 

أي مستقبل ينتظرنا بين وعود الطموح وقسوة الواقع؟

رغم التحذيرات من الإفراط في الاعتماد على أميركا، إلا أن الواقع يفرض نفسه: أوروبا تحتاج إلى الغاز الأميركي اليوم وغداً. التحوّل نحو الطاقات المتجددة ما زال بطيئاً، والاستغناء عن الوقود الأحفوري يحتاج عقوداً لا سنوات. وحتى ذلك الحين، سيبقى الغاز الأميركي ركيزة في أمن الطاقة الأوروبي.

 

التقييم الختامي

تصريح وزير الطاقة الأميركي ليس الغرض منه دعوة لزيادة المبيعات، بل تذكير بأن الطاقة أصبحت لغة سياسية وإنسانية في آن واحد. أوروبا تبحث عن الأمان، وأميركا تعرض نفسها كمصدر موثوق، والنتيجة أن حياة الناس اليومية – من كهرباء منازلهم إلى وظائفهم – باتت مرهونة بهذه الشراكة.

لكن خلف هذا المشهد الإنساني هناك بُعد آخر: فكلما ازداد اعتماد أوروبا على الغاز الأميركي، كلما فتحت الباب أمام واشنطن لاستخدام هذا المورد كورقة ضغط سياسية واقتصادية. فالولايات المتحدة قدّمت نفسها “شريكاً موثوقاً”، لكنها في النهاية دولة تبحث عن مصالحها أولاً. ليطرح ذلك إشكالية مصيرية على أوروبا: هل السبيل إلى أمن الطاقة يمرّ عبر الارتهان لقرار استراتيجي خارجي؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى