الاقتصاد الأمريكي في بداية 2025: انكماش سطحي أم مقدمة لركود عالمي؟

شهد الاقتصاد الأمريكي في الربع الأول من عام 2025 انكماشًا طفيفًا في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 0.3%، وذلك للمرة الأولى منذ شتاء 2022. رغم أن هذا التراجع لا يبدو حادًا في ظاهره، إلا أنه أثار قلق المحللين والمراقبين بشأن التوجهات الاقتصادية المستقبلية، سواء على مستوى الاقتصاد الأمريكي أو الاقتصاد العالمي.
غير أن هذا الانكماش لا يعكس، بالضرورة، بداية لانهيار اقتصادي واسع النطاق، بل يعكس اختلالات في مكونات النمو، لا سيما في الميزان التجاري وتغيرات المخزونات، في حين حافظ الطلب المحلي على زخم إيجابي.
زخم داخلي في ظل تحديات خارجية
الطلب المحلي النهائي حافظ على وتيرة نمو تتجاوز 2%، ما يشير إلى أن إنفاق الأسر والاستثمارات لا تزال صامدة. كما استمرت الاستثمارات في المعدات والإنشاءات، وخصوصًا في قطاعي البنية التحتية والسكن، في تقديم دفعة للنمو، مدفوعة جزئيًا بتوقعات فرض رسوم جمركية مرتفعة.
ومع ذلك، فإن اختلالات كبيرة ظهرت في مكونات أخرى، كان أبرزها القفزة الكبيرة في الواردات، والتي زادت العجز التجاري، إضافة إلى تراجع مفاجئ في الإنفاق الحكومي – خاصة الدفاعي – ما شكّل عبئًا على الأداء الكلي.
الواردات تقفز بنسبة 7.2%: تحوّط تجاري ومخاوف مستقبلية
سجلت الواردات الأمريكية في الربع الأول من 2025 زيادة بنسبة 7.2% على أساس سنوي معدّل موسميًا، وهي أعلى قفزة فصلية منذ سنوات.
وترجع هذه الزيادة إلى لجوء الشركات إلى “التحوّط التجاري”، أي استيراد كميات كبيرة من السلع، خاصة السيارات والسلع الاستهلاكية، قبل تطبيق رسوم جمركية متوقعة.
كما ساهم في هذه القفزة الطلب المحلي القوي، إضافة إلى ضعف مؤقت في الدولار الأمريكي جعل الواردات أكثر تنافسية من حيث التكلفة.
كذلك سعت الشركات لتعزيز مخزوناتها تحسبًا لتعطل محتمل في سلاسل التوريد، نتيجة التوترات الجيوسياسية.
ومع أن هذه الواردات تعكس قوة في النشاط التجاري، إلا أنها ساهمت في تعميق العجز التجاري، ما ضغط على النمو الكلي.
مخاوف من ركود تضخمي قادم
تُسبب الرسوم الجمركية ركودًا تضخميًا، ويُلقي عدم اليقين السياسي بظلاله على النشاط الاقتصادي. ووفقًا لخبراء اقتصاديين شملهم الاستطلاع، إلي انخفاض متوسط توقعات بلومبرغ لنمو الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي في عام 2025 من 2.1% في بداية العام إلى 1.4% في أواخر أبريل. ومن المتوقع الآن أن ترتفع أسعار المستهلك بنسبة 3.2% في عام 2025، مقارنةً بزيادة متوقعة بنسبة 2.5% في بداية العام. كما أن الرسوم الجمركية وعدم اليقين السياسي الأوسع نطاقًا من المرجح أن يكون لهما تأثير أكبر نسبيًا على الاقتصاد الأمريكي مقارنةً بمعظم الاقتصادات العالمية الكبرى الأخرى. ويتوقع الآن نموًا اقتصاديًا أمريكيًا بنسبة 1.5% في عام 2025، مقارنةً بنمو تجاوز 2.0% متوقع في وقت سابق من هذا العام. ونتوقع نموًا بنسبة 0.7% لمنطقة اليورو في عام 2025 (أضعف بنحو 0.2 نقطة مئوية عما كان عليه عند بداية العام) وأقل من 4% للصين (أضعف بنحو 0.5 نقطة مئوية). كما أن الاحتياطي الفيدرالي يتوقع ان يخفض أسعار الفائدة بمقدار 75-100 نقطة أساس بدءًا من سبتمبر، وهو الوقت الذي يُرجّح فيه أن يُظهر سوق العمل ضعفًا. لكن على المدى القريب، تبدو مرونة سياسات الاحتياطي الفيدرالي أكثر محدودية، إذ يتعين عليه الموازنة بين مخاوف النمو وخطر عودة التضخم. وقد دفع هذا التوتر في صلاحياته السياسية الرئيس إلى التهديد مجددًا بإقالة رئيسه جيروم باول، ليتراجع عن ذلك في خضم تقلبات الأسواق المالية التي أعقبت ذلك.
رغم أن الانكماش الراهن لا يُصنّف حتى الآن كركود، إلا أن وتيرة النمو في مكونات الاستهلاك الشخصي بدأت تتباطأ. يُتوقّع أن تؤدي ضغوط تكلفة المعيشة، وارتفاع معدلات الفائدة، إلى كبح شهية الإنفاق في الفصول المقبلة. كما أن الاستثمارات التي تم تقديمها بدافع الخوف من الرسوم الجمركية قد لا تستمر، مما قد يخلق فجوة في الطلب الاستثماري لاحقًا.
مع تزايد التوترات التجارية، وارتفاع مستوى عدم اليقين بشأن السياسات الاقتصادية، تتعزز احتمالات أن يشهد الاقتصاد الأمريكي تباطؤًا أعمق في النصف الثاني من 2025، وربما ركودًا فعليًا
تحذير من صندوق النقد الدولي: الخطر عالمي
في هذا السياق، حذّرت مديرة صندوق النقد الدولي، كريستالينا غورغييفا، من أن خطر الركود العالمي سيتصاعد إذا استمرت حالة عدم اليقين الناتجة عن الحرب التجارية التي تقودها الولايات المتحدة. ورغم أن الصندوق لا يتوقع ركودًا عالميًا في الوقت الحالي، فإن التهديدات المستمرة بفرض رسوم جمركية خلقت، بحسب غورغييفا، “مستوى غير مسبوق من الضبابية”، يعيق قرارات الشركات والأسر.
وقالت غورغييفا في مقابلة على هامش اجتماعات الربيع لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي:
“إذا استمرت هذه الحالة من عدم اليقين، فسنكون قد ألحقنا بأنفسنا ضررًا ذاتيًا سنندم عليه.”
وقد خفّض الصندوق بالفعل توقعاته لنمو الاقتصاد العالمي لعام 2025 إلى 2.8%، مقارنة بـ3.3% سابقًا.
هذا التراجع في التوقعات يعكس إدراكًا متزايدًا بأن آثار السياسة التجارية الأمريكية لا تنحصر محليًا، بل تمتد إلى سلاسل التوريد العالمية، وأسواق المال، والتدفقات الاستثمارية، ومزاج المستثمرين عالميًا.
ما هو الركود؟ وما تداعياته على الاقتصاد العالمي؟
الركود يُعرّف اقتصاديًا بانكماش الناتج المحلي الإجمالي لفصلين متتاليين أو أكثر، مصحوبًا عادة بتراجع في مستويات التوظيف والدخل والاستهلاك. لكن خطورته لا تكمن فقط في الأرقام، بل في انكماش الثقة، وتقلص قدرة الاقتصاد على خلق فرص العمل، وتراجع الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري.
إذا دخلت الولايات المتحدة فعليًا في ركود خلال 2025، فإن الآثار ستكون عالمية الطابع، ومن أبرزها:
• تباطؤ التجارة العالمية نتيجة انخفاض الطلب على الواردات.
• هبوط أسعار السلع الأساسية، ما يضر الدول المصدّرة.
• ضغوط على أسواق العملات وأسواق المال، بفعل انتقال العدوى النفسية والمالية.
• تأثر الأسواق الناشئة من خلال تراجع الاستثمارات والتحويلات المالية.
• تحول عالمي نحو التيسير النقدي، ما يضغط على كفاءة السياسات المالية.
خسارة شهرية للأسهم والنفط
وقد سجلت الأسهم الأمريكية انخفاضاً شهرياً خلال أبريل الماضي رغم ارتفاعها في آخر الجلسات، متأثرة بانكماش الاقتصاد الأمريكي في الربع الأول وضعف التوظيف في القطاع الخاص، ما عزز مخاوف الركود. فقد تراجع مؤشر “داو جونز” 3.68%، و”S&P 500” بنسبة 1.80%، فيما خسر “ناسداك” 0.88% خلال الشهر. كما هبط قطاع الطاقة بشدة مسجلاً أكبر خسارة شهرية منذ 2020، بينما تأثرت الأسواق العالمية عموماً بالتوترات التجارية وضعف الزخم الاقتصادي، وسجلت أسعار النفط والذهب تراجعات، وسط مخاوف مستمرة من تباطؤ عالمي. فقد تكبدت أسعار النفط في أبريل 2025 أكبر خسارة شهرية منذ أواخر 2021، متأثرة بمخاوف تباطؤ الطلب العالمي نتيجة التوترات التجارية والانكماش الاقتصادي. فقد تراجع خام برنت بنسبة 15%، بينما هبط خام نايمكس الأمريكي بنسبة 18%، ليسجل كلاهما أعمق خسارة منذ نوفمبر 2021. وجاء هذا التراجع بعد فرض الرئيس الأمريكي ترامب رسوماً جمركية واسعة، وتصاعد النزاع التجاري مع الصين، إلى جانب انكماش الاقتصادين الأمريكي والصيني، ما ضغط بشدة على توقعات الطلب على النفط.
الركود الأمريكي هو بمثابة “عدوى اقتصادية” تصيب النظام العالمي، نظرًا لتشابك سلاسل التوريد، وحجم الطلب الأمريكي، وهيمنة الدولار في التجارة الدولية.
خاتمة
الانكماش الطفيف في الربع الأول من 2025 ليس مؤشرًا قاطعًا على دخول الاقتصاد الأمريكي في ركود، لكنه بالتأكيد تحذير صريح بوجود اختلالات كامنة. وإذا لم تُعالَج هذه الاختلالات – خاصة على مستوى السياسات التجارية – فقد يتحول التباطؤ إلى ركود فعلي، مع ما يحمله ذلك من تداعيات عالمية..
تصريحات مسؤولي صندوق النقد، وانخفاض توقعات النمو، تعزز القناعة بأن الاقتصاد العالمي دخل مرحلة هشة، يتطلب الخروج منها تعزيز الثقة، وتخفيف التوترات الجيوسياسية، واستعادة الانسجام في السياسات الاقتصادية الكبرى.