اقتصاد بريطانيا يواجه عاصفة التحديات

بقلم – ليما راشد الملا
يعيش الاقتصاد البريطاني واحدة من أصعب مراحله منذ عقود، وسط تحديات متشابكة محلية وخارجية دفعت بنك إنكلترا المركزي إلى دق ناقوس الخطر والتحذير من استعداد البلاد لمرحلة قد تكون أكثر قسوة. ومع تراكم الأزمات، من تداعيات البريكست إلى أزمة الطاقة العالمية وتباطؤ النمو، تبدو بريطانيا وكأنها على أعتاب “عاصفة اقتصادية” قد تترك أثرًا طويل الأمد على مسارها المالي والاجتماعي.
مؤشرات سلبية متزايدة
التقارير الاقتصادية الأخيرة تؤكد بوضوح حجم التحديات المتنامية. فقد تراجع الإنتاج الصناعي بنسبة ملحوظة خلال الربع الأخير، فيما شهد قطاع الخدمات، الذي يشكل العمود الفقري للاقتصاد البريطاني، حالة من الركود انعكست على نظرة المستثمرين والمستهلكين على حد سواء. الجنيه الإسترليني بدوره تعرض لتحديات متكررة، حيث فقد جزءًا من قيمته أمام الدولار واليورو، الأمر الذي أدى إلى زيادة في كلفة الواردات وأدى إلى تفاقم معدلات التضخم.
دوامة التضخم والفوائد
لا شك أن التضخم هو المعضلة الأساسية أمام صانعي السياسات في المملكة المتحدة. على الرغم من الإجراءات التي اتخذها بنك إنكلترا عبر سلسلة من الزيادات في أسعار الفائدة، إلا أن معدلات التضخم لا تزال تفوق المستويات المستهدفة، ما يضع الأسر البريطانية تحت ضغط غير مسبوق. ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء ألقى بظلاله على القوة الشرائية للمواطنين، في وقت سجلت القروض العقارية والاستهلاكية أعلى مستوياتها من حيث الكلفة منذ أكثر من عقد.
بنك إنكلترا، في أحدث تقاريره، أطلق تحذيرًا صريحًا من “مرحلة ضبابية” قد تستمر لفترة طويلة، مشيرًا إلى أن أي تشديد إضافي في السياسة النقدية قد يفاقم خطر الركود، لكنه في الوقت ذاته يرى أن التساهل قد يؤدي إلى انفلات التضخم بشكل أكبر. هذه المعضلة المزدوجة تجعل من إدارة المرحلة الحالية مهمة شديدة التعقيد.
خسائر استثمارية وخروج رؤوس الأموال
إحدى أهم دلالات التحديات تتمثل في تسارع وتيرة إعادة هيكلة الاستثمارات الأجنبية. فالعديد من الشركات العالمية أعادت النظر في خططها طويلة الأجل داخل المملكة المتحدة، خصوصًا مع استمرار الضبابية المرتبطة باتفاقيات ما بعد البريكست. البيانات تشير إلى تراجع في الاستثمارات المباشرة بنسبة تفوق 15% خلال العامين الماضيين، وهو ما ترك أثره في معدلات البطالة خاصة في الصناعات التحويلية والمالية.
إضافة إلى ذلك، سجلت بورصة لندن خسائر ملحوظة في القيمة السوقية لعدد من الشركات الكبرى، في وقت فضّل فيه مستثمرون دوليون توجيه أموالهم إلى أسواق أكثر استقرارًا، سواء في الولايات المتحدة أو داخل الاتحاد الأوروبي.
البريكست وتداعياته المستمرة
رغم مرور سنوات على الخروج من الاتحاد الأوروبي، لا يزال الاقتصاد البريطاني يعاني من تداعياته. القيود الإدارية والجمركية الجديدة فرضت أعباء كبيرة على الصادرات البريطانية، وأضعفت تنافسية الشركات في السوق الأوروبية الموحدة. في المقابل، لم تنجح الترتيبات التجارية الجديدة في تعويض هذه الخسائر، ليترك بريطانيا في حالة من العزلة الاقتصادية الجزئية قياسًا بدورها السابق.
التقارير تشير إلى أن قطاعي الزراعة والصناعة التحويلية هما الأكثر تضررًا، حيث ارتفعت التكاليف التشغيلية وازدادت صعوبة الوصول إلى الأسواق الأوروبية، وهو ما أجبر بعض الشركات
إلى تقليص عملياتها أو نقل جزء منها إلى دول الاتحاد الأوروبي.
الحاجة إلى إصلاحات جذرية
وسط هذه التحديات، يرى خبراء الاقتصاد أن بريطانيا بحاجة عاجلة إلى حزمة من الإصلاحات الهيكلية. الاستثمار في التكنولوجيا والابتكار يعد خطوة أساسية لإعادة رفع الإنتاجية، كما أن تعزيز الإنفاق على البنية التحتية يمكن أن يخلق وظائف جديدة ويدعم النشاط الاقتصادي. إضافة إلى ذلك، فإن تحسين بيئة الأعمال وجعلها أكثر جاذبية للمستثمرين الأجانب يجب أن يكون أولوية.
في الوقت ذاته، هناك دعوات متزايدة لتبني سياسة تجارية أكثر مرونة تعيد بناء الجسور مع الاتحاد الأوروبي، الشريك التجاري الأكبر تاريخيًا للمملكة المتحدة. مثل هذه الخطوات من شأنها أن تعيد الثقة للأسواق وتفتح آفاقًا جديدة للنمو.
المحصلة النهائية
الاقتصاد البريطاني يقف اليوم عند مفترق طرق صعب، بين تحديات داخلية من تضخم وبطالة، وتحديات خارجية مرتبطة بالعلاقات التجارية والاستثمارات العالمية. جرس الإنذار الذي أطلقه بنك إنكلترا ليس مجرد تحذير عابر، بل دعوة للاستعداد لمرحلة تتطلب قرارات جريئة وحلولًا غير تقليدية. خصوصاً وأنه في غياب إصلاحات عميقة، قد تتحول العاصفة الاقتصادية إلى أزمة ممتدة تعيد رسم ملامح بريطانيا الاقتصادية والسياسية لسنوات مقبلة… لكن يبقى الاقتصاد البريطاني محوري ويمرض ولا يموت وقادرة على العودة والنهوض.