تمويل وتطوير المدن الإسكانية ومشروعات البنية التحتية: الآليات والتحديات

بقلم د. محمد جميل الشبشيري
تواجه العديد من الدول، ومن بينها دولة الكويت، تحديات متزايدة في توفير السكن الملائم لمواطنيها، في ظل نمو سكاني مطرد وضغوط اقتصادية متصاعدة. ويبرز من بين الحلول المطروحة إنشاء مدن إسكانية جديدة وتنفيذ مشروعات بنية تحتية ضخمة قادرة على استيعاب الطلب المتزايد. غير أن التحدي الجوهري يتمثل في كيفية تمويل هذه المشروعات التي تتطلب استثمارات تتجاوز بكثير الإمكانيات التقليدية للمالية العامة. يهدف هذا المقال إلى استعراض أبرز آليات تمويل مشروعات البنية التحتية والمدن الإسكانية، وتقييم التحديات المصاحبة لها، مع تسليط الضوء على النماذج العالمية الناجحة والدروس المستفادة للكويت.
أولًا: التمييز بين تمويل المساكن الفردية والمشروعات الكبرى
يختلف تمويل المشروعات الكبرى، من حيث الحجم والطبيعة، عن تمويل الوحدات السكنية الفردية، على النحو التالي:
- حجم التمويل: بينما تتطلب المساكن الفردية تمويلًا في حدود مئات الآلاف من الدنانير، فإن المشروعات الكبرى تتطلب استثمارات بمليارات الدنانير.
- أفق الاستثمار: تمتد دورة حياة الاستثمار في المشروعات الكبرى لعقود، مقابل آجال قصيرة نسبيًا في التمويل العقاري الفردي.
- تعقيد الهياكل التمويلية: تتطلب المشروعات الكبرى نماذج تمويل مركبة متعددة المصادر، في حين أن التمويل الفردي غالبًا ما يعتمد على قروض مصرفية تقليدية.
- المخاطر: تواجه المشروعات الكبرى مستويات أعلى من المخاطر السياسية والتشغيلية والتنظيمية.
ثانيًا: نماذج تمويل البنية التحتية والمدن الإسكانية
- تمويل المشروع Project Finance))
يُعد هذا النموذج من أكثر الأساليب شيوعًا في تمويل مشروعات البنية التحتية، ويعتمد على خصائص منها:
- الاعتماد على التدفقات النقدية المستقبلية للمشروع، وليس على ضمانات الحكومة.
- تأسيس كيان ذو غرض خاص (SPV) يفصل بين المشروع والشركات المالكة.
- خروج التمويل من الموازنة العامة، مما يعزز من التصنيف الائتماني السيادي.
- التطبيقات: في قطاعات الطاقة، والمياه، والنقل، والاتصالات.
- الشراكة بين القطاعين العام والخاص (PPP)
تُستخدم هذه الشراكة لتوزيع المخاطر والاستفادة من كفاءة القطاع الخاص، ومن أبرز نماذجها:
- البناء والتشغيل ونقل الملكية (BOT)
- البناء والتملك والتشغيل ونقل الملكية (BOOT)
- التصميم والبناء والتمويل والتشغيل (DBFO)
- صناديق البنية التحتية الوطنية
أمثلة بارزة:
- صندوق الاستثمارات العامة السعودي: يمول مشروعات مثل “نيوم” و” القدية”.
- صندوق البنية التحتية الهندي (NIIF): نموذج مختلط بين التمويل العام والخاص.
- التمويل الإسلامي
تُستخدم صيغ التمويل الإسلامي على نطاق واسع، أبرزها:
- الاستصناع: مناسب لمشروعات البناء.
- الإجارة المنتهية بالتمليك.
- المشاركة المتناقصة.
- الصكوك: أدوات فعالة لتمويل مشروعات البنية التحتية، مدعومة بأصول حقيقية.
ثالثًا: النموذج التمويلي المتكامل للمدن الإسكانية
يتطلب تطوير المدن الإسكانية استخدام مزيج تمويلي متعدد المصادر يشمل:
- التمويل الحكومي المباشر للبنية التحتية الأساسية.
- السندات الحكومية والقروض التنموية.
- شراكات القطاع الخاص.
- مساهمات المطورين العقاريين.
- تمويل من بنوك التنمية متعددة الأطراف.
- تمويل من البنوك التجارية والإسلامية التي تتوفر لديها سيولة طويلة الأجل، لا سيما تلك التي تبحث عن فرص استثمارية ذات عوائد متوسطة إلى طويلة الأجل، كالمشروعات الإسكانية المدعومة بضمانات أو أصول عقارية.
آليات استرداد التكاليف:
- بيع الأراضي والوحدات السكنية.
- فرض الرسوم والضرائب على المستفيدين.
- تحقيق إيرادات تشغيلية من تقديم الخدمات.
- تطبيق آليات “التمويل من خلال القيمة المضافة” (Value Capture).
رابعًا: التحديات الرئيسية
- الفجوة التمويلية العالمية، والمقدرة بتريليونات الدنانير.
- طول فترة استرداد رأس المال، مما يقلل من جاذبية الاستثمار الخاص.
- القصور التنظيمي والتشريعي في بعض الدول.
- المخاطر السياسية والتغيرات في السياسات العامة.
- ضعف القدرات المؤسسية والإدارية.
خامسًا: حلول لتعزيز كفاءة التمويل
- تحسين البيئة التشريعية والتنظيمية وتأسيس وحدات متخصصة في إدارة مشاريع الشراكة.
- تقديم ضمانات حكومية وحوافز استثمارية.
- ابتكار نماذج PPP مرنة وعادلة.
- تعزيز دور بنوك التنمية والمؤسسات الدولية.
- بناء القدرات المؤسسية عبر التدريب ونقل الخبرات.
- تنشيط أسواق رأس المال المحلية وإصدار السندات الخضراء والاجتماعية.
سادسًا: تجارب عالمية ناجحة
- مدينة مصدر – الإمارات: تمويل مختلط حكومي وخاص مع تركيز على الاستدامة.
- مدينة العلمين الجديدة – مصر: نموذج متكامل يدمج التمويل الحكومي مع الشراكة الدولية والمحلية.
- مدينة سونغدو – كوريا الجنوبية: شراكة استراتيجية بين الحكومة وشركات عالمية، مع التركيز على البنية التحتية الذكية.
سابعًا: دروس مستفادة للكويت
- تبني نهج تمويلي متكامل يجمع بين الموارد الحكومية، والقطاع الخاص، ومصادر التمويل التنموي.
- تطوير بيئة تشريعية جاذبة للاستثمار.
- تنفيذ المشروعات على مراحل قابلة للتمويل والاستيعاب.
- توظيف أدوات التمويل الإسلامي، لا سيما الصكوك.
- دمج معايير الاستدامة لخفض التكاليف التشغيلية وجذب التمويل الأخضر.
خاتمة
يتطلب تمويل مشروعات البنية التحتية والمدن الإسكانية الكبرى تكاملًا فعالًا بين القطاعين العام والخاص، واستحداث آليات تمويل مبتكرة قادرة على تجاوز محدودية الموارد العامة. ويُمثل نجاح الكويت في هذا المجال فرصة استراتيجية لتلبية احتياجات الإسكان، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، وتعزيز التنافسية الاقتصادية.