الذهب في ذروته: ملاذ آمن في ظل تضارب سياسات الفيدرالي

د. محمد جميل الشبشيري
Elshebshiry@outlook.com
في خضم التقلبات الاقتصادية والجيوسياسية العالمية، يواصل الذهب تألقه كملاذ آمن، محققًا مستويات قياسية جديدة. فقد وصل سعر الذهب الفوري (XAU=) مؤخرًا إلى 3,763.82 دولارًا للأوقية، بزيادة قدرها 0.47%. هذا الارتفاع اللافت يثير تساؤلات حيوية بين المستثمرين حول التوقيت الأمثل للشراء، خاصة مع تضارب الرسائل الصادرة عن الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وتأثيرها على الأسواق العالمية. فهل يعكس هذا الصعود مجرد تحوط ضد المخاطر، أم أنه مؤشر على تحولات أعمق في الاقتصاد العالمي؟
الذهب كملاذ آمن في أوقات عدم اليقين
لطالما كان الذهب ملاذًا آمنًا تقليديًا للمستثمرين خلال فترات الاضطراب الاقتصادي والجيوسياسي. وقد تجلى هذا الدور بوضوح في الارتفاعات الأخيرة التي دفعت أسعاره إلى مستويات قياسية. يرى العديد من الخبراء أن هذا الصعود يعكس رغبة المستثمرين في التحوط ضد المخاطر المحتملة في الأسواق الأخرى. في هذا السياق، صرح كريس ويستون، رئيس الأبحاث في شركةPepperstone للوساطة المالية، بأن المستثمرين “يتحوطون من تعرضهم للأسهم عن طريق شراء الذهب”، مما يؤكد النظرة التقليدية للمعدن الأصفر كأداة للحماية من تقلبات السوق.
سياسات الاحتياطي الفيدرالي وتأثيرها على الأسواق
تُعد سياسات الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي (البنك المركزي) عاملًا حاسمًا في توجيه أسواق المال العالمية، وقد دعمت توقعات خفض أسعار الفائدة أسواق الأسهم العالمية بعد أن خفف الفيدرالي سياسته الأسبوع الماضي. ومع ذلك، فإن المشهد ليس بالبساطة التي يبدو عليها. يصف بوب سافاج، رئيس استراتيجية الاقتصاد الكلي للأسواق في بنك BNY، الوضع بأن “الأسواق هادئة في هذا ‘الارتفاع الشامل’، في انتظار المزيد من الأدلة على أن المزيد من التيسير من جانب الفيدرالي سيجنب الاقتصاد أي هبوط حاد”.
تظل الأسواق مائلة نحو التيسير النقدي (dovish) على الرغم من الرسائل المتضاربة الصادرة عن الفيدرالي نفسه. فقبل خطاب رئيس الفيدرالي، قللت نائبة رئيس الإشراف، ميشيل بومان، إلى حد كبير من مخاطر التضخم، مشيرة إلى أن أسعار الفائدة قد تحتاج إلى الانخفاض بشكل أسرع لدعم سوق العمل. وفي المقابل، دعا الحاكم الجديد للفيدرالي، ستيفن ميران، إلى تخفيضات حادة في أسعار الفائدة يوم الاثنين، بينما حث ثلاثة من زملائه على توخي الحذر بشأن التضخم. هذا التضارب في الآراء داخل الفيدرالي يعكس حالة عدم اليقين التي تسيطر على صانعي السياسات، ويزيد من تعقيد المشهد الاقتصادي، مما يدفع المستثمرين للبحث عن الأمان في أصول مثل الذهب. وفي خضم هذه التطورات، ظل مؤشر الدولار (=USD)، الذي يقيس قيمة العملة الأمريكية مقابل سلة من العملات الرئيسية، ثابتًا نسبيًا عند 97.24، مما يشير إلى استقرار نسبي للدولار رغم التكهنات حول سياسات الفيدرالي.
الأسباب الكامنة وراء قفزات الذهب الصاروخية
لا يمكن تفسير الارتفاعات المتتالية في أسعار الذهب بمعزل عن مجموعة معقدة من العوامل الاقتصادية والجيوسياسية العالمية. فالمؤكد أن هذه القفزات ليست وليدة الصدفة، بل هي نتاج تفاعلات عميقة تؤثر في المشهد الاقتصادي العالمي، والتي تتضمن الآن تضاربًا في سياسات البنوك المركزية.
1- تراجع الدولار وسياسات الفائدة:
يُعد تراجع قيمة الدولار الأمريكي وخفض أسعار الفائدة من العوامل التقليدية التي تدعم أسعار الذهب. فعندما تنخفض قيمة الدولار، يصبح الذهب المقوم بالدولار أرخص لحاملي العملات الأخرى، مما يزيد الطلب عليه. كما أن خفض أسعار الفائدة يجعل الاستثمار في الأصول ذات العائد الثابت أقل جاذبية، مما يدفع المستثمرين للبحث عن بدائل أكثر أمانًا وجاذبية مثل الذهب. ورغم التكهنات حول سياسات الفيدرالي، فقد ظل مؤشر الدولار (=USD) ثابتًا نسبيًا عند 97.24، مما يعكس حالة من الترقب في الأسواق.
2- الذهب كملاذ آمن:
لطالما عُرف الذهب بأنه الملاذ الآمن الأول في أوقات الأزمات وعدم اليقين الاقتصادي والسياسي. ففي ظل الظروف الراهنة، حيث تتزايد المخاطر وتتفاقم الأزمات، يزداد الطلب العالمي على الذهب كأداة للحفاظ على القيمة وحماية الثروات. هذا الطلب المتزايد، في مواجهة عرض محدود نسبيًا، يدفع الأسعار نحو الارتفاع، خاصة مع تحوط المستثمرين في الأسهم بشراء الذهب، كما أشار كريس ويستون من Pepperstone.
3- الظروف الجيوسياسية والاقتصادية العالمية:
تُشكل التحولات الجيوسياسية والاقتصادية الكبرى محركًا رئيسيًا لارتفاع أسعار الذهب. ومن أبرز هذه التحولات:
* تراجع الهيمنة الأمريكية وصعود قوى جديدة: تتزايد الأحاديث عن تراجع الهيمنة الأمريكية المتفردة وعملة الدولار لصالح قوى اقتصادية صاعدة مثل الصين والهند. هذا التحول في موازين القوى العالمية، المدفوع بالأزمات الاقتصادية والشعبوية التي تعاني منها الولايات المتحدة، يدفع الدول والكيانات الاقتصادية للبحث عن بدائل للدولار، والذهب هو أحد أبرز هذه البدائل.
* تغيرات في تركيبة احتياطيات الدول من النقد الأجنبي: تشهد احتياطيات الدول من النقد الأجنبي تغيرات ملحوظة، حيث تتراجع حصة الدولار لصالح عملات أخرى وأنظمة المقايضة. وقد تعزز هذا التوجه بشكل كبير بعد قرار دول الغرب تجميد نصف احتياطيات روسيا من النقد الأجنبي (أكثر من 300 مليار دولار من أصل 640 مليار دولار). هذا القرار أثار ذعرًا واسعًا لدى العديد من الدول، خوفًا من تكرار السيناريو وتجميد احتياطياتها الأجنبية في حال نشوب خلافات سياسية أو عسكرية مع الولايات المتحدة وأوروبا، كما حدث مع موسكو عقب اندلاع حرب أوكرانيا في فبراير 2022.
* تدافع البنوك المركزية نحو شراء الذهب: عقب تجميد الأصول الروسية، شهد العالم تدافعًا غير مسبوق من قبل العديد من البنوك المركزية العالمية نحو شراء أطنان من الذهب. دول مثل الصين، تركيا، سنغافورة، بولندا، الهند، أوزبكستان، كازاخستان، العراق، وتايلاند كانت في مقدمة هذه الدول. وقد زاد هذا التوجه عقب اندلاع الحرب التجارية الأمريكية التي قادها دونالد ترامب ضد شركاء الولايات المتحدة، وما أثارته تلك الحرب من انقلاب في خريطة التجارة الدولية وتحركات السلع والإمدادات وسلاسل التوريد.
* زيادة المخاطر الجيوسياسية: ولّدت زيادة المخاطر حول العالم انطباعًا لدى معظم الدول بأن العالم يتجه نحو مزيد من التصعيد والتوتر. فالصراعات المستمرة في غزة وأوكرانيا، واحتمالات فتح جبهات صراع جديدة في تايوان أو شرق أوروبا، واختراق المقاتلات الروسية للمجال الجوي لدول الناتو، وعودة المواجهة بين إيران وإسرائيل، وتوسيع إسرائيل لدائرة المواجهة في المنطقة، كلها سيناريوهات محتملة تزيد من منسوب المخاطر الجيوسياسية والاقتصادية والمالية. هذه البيئة المضطربة تدفع المستثمرين والحكومات على حد سواء نحو الذهب كملاذ آمن ومستقر.
متى نشتري الذهب؟ نصيحة استثمارية في زمن عدم اليقين
في ظل هذه المعطيات المعقدة، التي تجمع بين الارتفاعات القياسية للذهب، وتضارب سياسات الاحتياطي الفيدرالي، والمخاطر الجيوسياسية المتزايدة، يظل السؤال الأهم الذي يطرحه الجميع هو: ما هو الموعد المناسب والمثالي لشراء الذهب؟ هل يجب الإقدام على الشراء اليوم، أم غدًا، أم الشهر المقبل، أم في العام المقبل؟
الحقيقة التي يجب الإقرار بها هي أنه لا أحد يمتلك الإجابة الدقيقة والحاسمة على هذا السؤال. فسوق الذهب، كغيره من الأسواق المالية، يتأثر بعوامل متعددة ومتغيرة باستمرار، مما يجعل التنبؤ بحركته المستقبلية أمرًا بالغ الصعوبة. ومع ذلك، يمكن تقديم نصيحة عامة مبنية على التحليلات والتوقعات الحالية:
تُشير التوقعات إلى أن الشراء في عام 2025 قد يكون أفضل من الشراء في عام 2026. هذه النصيحة تستند إلى الاعتقاد بأن العوامل الدافعة لارتفاع أسعار الذهب، مثل التوترات الجيوسياسية، والتضخم، وتراجع الثقة في العملات الورقية، ستظل قائمة وربما تتفاقم في المدى القريب والمتوسط. وبالتالي، فإن الانتظار قد يعني تفويت فرص لتحقيق مكاسب أكبر، أو الاضطرار للشراء بأسعار أعلى في المستقبل. ومع ذلك، يجب على المستثمرين دائمًا إجراء أبحاثهم الخاصة والتشاور مع خبراء ماليين قبل اتخاذ أي قرارات استثمارية.
الخلاصة: الذهب ملاذ آمن في عالم مضطرب وتضارب السياسات
في الختام، يتضح أن الارتفاعات القياسية في أسعار الذهب ليست مجرد ظاهرة عابرة، بل هي انعكاس لتغيرات عميقة في المشهد الاقتصادي والجيوسياسي العالمي. فمن تراجع هيمنة الدولار، إلى تزايد المخاطر الجيوسياسية، مرورًا بتغيرات في سياسات البنوك المركزية واحتياطيات الدول، وتضارب الرسائل الصادرة عن الاحتياطي الفيدرالي، تتضافر كل هذه العوامل لتدفع الذهب نحو مستويات سعرية جديدة.
يظل الذهب، في جوهره، ملاذًا آمنًا ومخزنًا للقيمة في أوقات عدم اليقين. ورغم صعوبة التنبؤ الدقيق بحركة الأسعار، فإن التوقعات تشير إلى استمرار جاذبيته كأداة استثمارية. لذا، فإن فهم هذه الديناميكيات العالمية يصبح ضروريًا لكل من يسعى لاتخاذ قرارات استثمارية مستنيرة في سوق الذهب.
ندعو القراء الكرام إلى نقاش جاد وموضوعي حول هذه القضية الهامة، ومشاركة آرائهم وتوقعاتهم حول مستقبل المعدن الأصفر في ظل التحديات الراهنة.