مقالات

الذكاء الصناعي: هل نحن في فقاعة جديدة

بقلم/ د. محمد جميل الشبشيري

Elshebshiry@outlook.com

الجميع يتحدث عن الذكاء الاصطناعي هذه الأيام. الاستثمارات تتدفق بالمليارات، الشركات الناشئة تُقيّم بأرقام فلكية، وكل شركة تكنولوجيا كبرى تتسابق لضخ المزيد من الأموال في هذا المجال. لكن هناك سؤال يطرحه الكثيرون بصوت خافت: هل نحن في خضم فقاعة جديدة؟

يقول المتفائلون، ومن بينهم أسماء كبيرة مثل جيف بيزوس وسام ألتمان، إن ما نشهده اليوم هو “فقاعة جيدة”. نعم، ستكون هناك خسائر، وستفشل الكثير من الشركات، لكن في النهاية، سيستفيد الجميع من التكنولوجيا التي ستُبنى على أنقاض هذه الفقاعة. يشبّهون الوضع بما حدث مع السكك الحديدية أو الإنترنت: انهيارات مؤلمة، لكنها تركت وراءها بنية تحتية غيّرت العالم.

لكن هل هذا التفاؤل في محله؟ دعونا نلقي نظرة أقرب على ما يحدث اليوم، وما حدث في الماضي.
عندما تبدأ الأرقام بإثارة القلقلنبدأ بالحقائق المالية. الشركات الكبرى التي توفر الخدمات السحابية – تلك التي تُشغّل كل شيء من تطبيقات الهواتف إلى نماذج الذكاء الاصطناعي – تواجه مشكلة. التدفقات النقدية الحرة، وهي ببساطة الأموال المتبقية بعد دفع كل التكاليف، بدأت تتراجع. التقديرات تشير إلى أنها قد تنخفض بنسبة 16% خلال العام القادم.

المشكلة ليست فقط في تراجع الأرباح، بل في طريقة تمويل هذه الطفرة. هناك صفقات غريبة تحدث الآن تذكّرنا بما حصل قبل انفجار فقاعة الدوت كوم. تخيل أن شركة تصنع الرقائق الإلكترونية تستثمر في شركة أخرى تشتري منها نفس الرقائق. أو شركة تبني مراكز بيانات ضخمة لشركة ناشئة وتموّل كل ذلك بالديون. هذه “الصفقات الدائرية” تخلق وهمًا بالنمو، لكن في الحقيقة، الجميع يموّل بعضهم البعض.
خذ مثلاً صفقة Oracle مع OpenAI بقيمة 300 مليار دولار. أو استثمار Nvidia البالغ 100 مليار دولار في OpenAI، بينما OpenAI تشتري رقائق Nvidia. هذه الصفقات تبدو مثيرة للإعجاب على الورق، لكنها تثير تساؤلات جدية: هل هذا نمو حقيقي، أم مجرد دوامة مالية ستنهار في النهاية؟

دروس من التاريخ: الفقاعات ليست جديدةالحقيقة أن البشرية مرت بهذا من قبل، مرات عديدة. كل مرة كانت هناك تكنولوجيا جديدة واعدة، اندفع الناس للاستثمار فيها بجنون، وفي كل مرة كان هناك ثمن باهظ يُدفع .

.
في القرن الثامن عشر، كانت القنوات الصناعية هي التكنولوجيا الثورية في بريطانيا. الجميع أراد الاستثمار فيها. وبالفعل، ساعدت هذه القنوات في نقل الفحم بتكلفة أقل، مما دفع الثورة الصناعية إلى الأمام. لكن بعد ربع قرن من الهوس، اكتشف المستثمرون أن خُمس هذه القنوات لم تحقق أي أرباح. وفي عام 1793، انفجرت الفقاعة وحدثت أزمة تجارية كبيرة.

بعدها جاءت السكك الحديدية في أربعينيات القرن التاسع عشر. كانت الفكرة رائعة: ربط المدن والقرى بشبكة واسعة من القطارات. وبالفعل، غيّرت السكك الحديدية العالم وخلقت أسواقًا جديدة. لكن الفقاعة كانت وحشية. في بريطانيا، انهارت أسهم السكك الحديدية بنسبة 85% بحلول عام 1850، وحدثت أزمة مصرفية عام 1847 دمّرت الكثير من المستثمرين.

في أمريكا، كان الأمر أسوأ. بين عامي 1865 و1873، بُنيت 30 ألف ميل من خطوط السكك الحديدية. كان الحماس في ذروته، حتى انهار بنك Jay Cooke & Company في سبتمبر 1873. النتيجة؟ أول “كساد كبير” في تاريخ أمريكا، استمر عقدًا كاملاً، مع بطالة مرتفعة واضطرابات اجتماعية واسعة.

ثم جاءت فقاعة الإنترنت في أواخر التسعينيات. كانت الإنترنت تكنولوجيا حقيقية وواعدة، لكن التقييمات كانت جنونية. عندما انفجرت الفقاعة في مارس 2000، فقد مؤشر ناسداك 80% من قيمته. حتى أمازون، التي نجت وأصبحت عملاقًا اليوم، انخفض سهمها بأكثر من 90%. شركات كبيرة مثل وورلدكوم انهارت تمامًا.

لكن هناك جانب إيجابي: كابلات الألياف البصرية التي بُنيت خلال تلك الفترة أصبحت فيما بعد العمود الفقري لخدمات مثل نتفليكس ويوتيوب. لذلك يقول البعض إن الفقاعة كانت “مفيدة” في النهاية.

لكن هل هذا يبرر الخسائر؟ الحقيقة أن فقاعة الإنترنت لم تكن مدمرة فقط بسبب الانهيار نفسه، بل بسبب ما تلاه. لتخفيف الصدمة، خفّض بنك الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة إلى 1%، وضخت الحكومة الأمريكية أموالًا ضخمة في الاقتصاد. هذه السياسة “السهلة” خلقت فقاعة أخرى: فقاعة العقارات والائتمان التي انفجرت عام 2008 وتسببت في أزمة مالية عالمية. من هذا المنظور، كانت آثار فقاعة الإنترنت كارثية.
لماذا فقاعة الذكاء الاصطناعي مختلفة (وأخطر)؟الآن، دعونا نتحدث عن اليوم. فقاعة الذكاء الاصطناعي تشبه الفقاعات السابقة في بعض الجوانب، لكنها تختلف في جوانب أخرى تجعلها أكثر خطورة.

أولًا، التكنولوجيا لم تُثبت نفسها بعد. عندما كانت فقاعة السكك الحديدية في ذروتها، كانت القطارات تعمل فعلًا وتنقل الناس والبضائع. وعندما كانت فقاعة الإنترنت في ذروتها، كان الإنترنت موجودًا ويعمل. لكن الذكاء الاصطناعي العام – ذلك الذكاء الذي يفكر مثل البشر – لا يزال حلمًا بعيدًا. نحن نراهن بمليارات الدولارات على شيء لم يتحقق بعد. إذا فشل هذا المشروع، فلن تكون هناك “بنية تحتية مفيدة” نستفيد منها.
ثانيًا، ما نبنيه اليوم قد يصبح عديم القيمة بسرعة. القنوات والسكك الحديدية وكابلات الألياف البصرية كانت أصولًا دائمة. لكن المعالجات الرسومية ومراكز البيانات التي نبنيها اليوم قد تصبح قديمة وعديمة الفائدة في غضون سنوات قليلة. التكنولوجيا تتطور بسرعة مذهلة، وما هو متطور اليوم قد يكون خردة غدًا.

ثالثًا، الاعتماد على الديون. الكثير من هذه الاستثمارات الضخمة تُموّل بالديون. هذا يجعل النظام هشًا للغاية. إذا حدث أي خلل، قد ينهار كل شيء مثل أحجار الدومينو.

رابعًا، الحكومات لا تملك أدوات الإنقاذ هذه المرة. في عام 2000، عندما انفجرت فقاعة الإنترنت، كان بإمكان الحكومة الأمريكية والبنك المركزي التدخل بقوة: خفض الفائدة، ضخ الأموال، تحفيز الاقتصاد. لكن اليوم، الوضع مختلف. الحكومة تعاني من عجز مالي ضخم، والبنك المركزي لا يزال يتعامل مع تبعات الأزمات السابقة، والتضخم لا يزال مرتفعًا. إذا انفجرت فقاعة الذكاء الاصطناعي، فلن يكون هناك من ينقذنا بسهولة.

في الوقت الحالي، الإنفاق الضخم على الذكاء الاصطناعي يدعم الاقتصاد الأمريكي بنسبة 3% من الناتج المحلي الإجمالي. لكن التاريخ يعلمنا أن هذه الفقاعات تنتهي فجأة، وعندما تنتهي، تكون النتائج مؤلمة.
في النهاية: لا توجد فقاعة “جيدة”حتى قادة الصناعة يعترفون بالمخاطر. سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لـ OpenAI، قال صراحة إن بعض الناس “سيفقدون مبالغ مالية هائلة” عندما تنفجر هذه الفقاعة. وجيف بيزوس قال إن الحماس أصبح كبيرًا لدرجة أن “الأفكار الجيدة والسيئة على حد سواء” تحصل على تمويل.
الفكرة القائلة بأن هناك “فقاعات جيدة” تبدو مريحة، لكنها تتجاهل الألم الحقيقي الذي يعانيه الناس عندما تنفجر هذه الفقاعات. نعم، قد نحصل على بعض التكنولوجيا المفيدة في النهاية، لكن الطريق إلى هناك مليء بالخسائر المالية، والبطالة، والاضطرابات الاجتماعية.

المستثمرون اليوم منغمسون في أسهم الذكاء الاصطناعي تمامًا كما كان أسلافهم منغمسين في أسهم الإنترنت عام 2000. والتاريخ يخبرنا أن النهاية لن تكون سعيدة للجميع. قد يكون هناك فائزون قلائل، لكن الأغلبية ستدفع الثمن.

الخلاصة؟ لا توجد فقاعة “جيدة” حقًا. كل فقاعة، مهما كانت التكنولوجيا التي تدعمها واعدة، تنتهي بانهيار مؤلم. والسؤال ليس “هل ستنفجر الفقاعة؟”، بل “متى؟” و”كم سيكون الثمن؟”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى