“مكافحة غسل الأموال في العصر الرقمي”: من التتبع إلى التنبؤ
بقلم : عمرو علاء
مسؤول مطابقة والتزام
في عالم لا يسمع فيه أحد صوت الجريمة ولا يشم رائحتها ولا يلمح خطواتها، تتحرك الأموال القذرة أسرع من الضوء، مختبئة داخل شيفرات، ومنصات، وعمليات تبدو بريئة تماماً.
جريمة غسل الأموال لم تعد حقيبة تُحمل، ولا مبلغ يُهرب، بل أصبحت سطر كود ومعاملة رقمية ولمسة على شاشة هاتف.
غسل الأموال في العصر الرقمي… حين أصبحت الجريمة أسرع من الإنسان
لم تكن التكنولوجيا يوما عدوا للإنسان، لكنها أيضا لم تكن صديقه المخلص دائما، فبينما جاءت لتسهل الحياة فقد فتحت في الوقت نفسه أبواباً خلفية لجرائم لا ترى بالعين ولا تُمسك باليد، لكنها تُحدث ارتجاجا في قلب النظام المالي العالمي.
في الماضي كان المجرم يحتاج إلى حقيبة ممتلئة بالنقد، وسيارة، وطريق طويل للهروب اليوم يكفيه هاتف ذكي واتصال إنترنت وخمس ثوانٍ فقط.
هكذا تحول غسل الأموال من جريمة ورقية بطيئة إلى جريمة رقمية عابرة للقارات تحدث قبل أن يلتقط النظام أنفاسه.
عالم مالي يتغير… ومجرمون يتغيّرون أسرع
لم تعد الجرائم المالية تعتمد على أساليب فضيحة أو أموال تنقل باليد، أصبحت الجريمة نظيفة وأنيقة وغير قابلة للاكتشاف بالعين المجردة، اليوم يمكن لمجرم واحد تفتيت مليون دولار إلى عشرات العمليات الصغيرة في محافظ رقمية متناثرة داخل ألعاب إلكترونية وعبر منصات مشفّرة وباستخدام هويات يصعب تعقبها.
كل هذا يحدث دفعة واحدة في نفس اللحظة على شبكات لا يجمعها رابط ظاهر، النظام المالي حينها لا يرى شيئاً لكنه يشعر أن هناك نبضا غير طبيعي يمر في شرايينه.
حين كانت الرقابة تمشي… والجريمة تركض
قبل دخول التكنولوجيا ساحة الامتثال، كانت الرقابة تتصرّف كما لو كانت تمشي على قدميها بينما الجريمة تقود سيارة سباق، حيث كانت مراجعة الحسابات تستغرق أياما و70% من الإنذارات كانت خاطئة وبلغت حينها غرامات البنوك بين أعوام 2000 إلى 2010 عشرون مليار دولار تقريباً والجرائم كانت تختفي بين آلاف المعاملات اليومية، وكانت التكنولوجيا في ذلك الوقت مجرد متفرج أما الامتثال فكان يحارب بيدين خاليتين.
التكنولوجيا تغير قواعد اللعبة… من المطاردة إلى التنبؤ
جاءت الثورة الرقمية وانقلب المشهد لم يعد الامتثال ينتظر وقوع الجريمة ليبدأ المطاردة، بل أصبح يسعى إلى منعها قبل أن تُولد
فالخوارزميات الحديثة اليوم قادرة على قراءة سلوك العملاء وليس أموالهم فقط ،تحليل ملايين العمليات في ثوانٍ ،اكتشاف الروابط بين حسابات تبدو لا علاقة لها ببعض ،تحديد الشبكات المالية الخفية وتوقع العملية المشبوهة قبل أن تتم.
نتيجة لذلك فقد حدث انخفاض في الإنذارات الخاطئة بنسبة 40% وارتفاع دقة الاكتشاف المبكر بنسبة 60% فالجرائم التي كانت ستعبر كالهواء أصبحت اليوم مكشوفة.
ورغم أن تقديرات الأمم المتحدة تشير إلى غسل أموال يتراوح بين 800 مليار إلى 2 تريليون دولار سنويًا، إلا أن التكنولوجيا جعلت “الصيد” أسرع وأكثر ذكاءً.
اللاعب الذي لا يمكن استبداله “الإنسان”.
رغم كل هذه القوة تظل الحقيقة ثابتة “الآلة تكشف والإنسان يقرر” حيث ان الخوارزمية قد تقول لك هناك شيء غريب لكن الإنسان وحده يستطيع أن يقول هل هو جريمة أم مجرد سلوك طبيعي، فالذكاء الاصطناعي يستطيع قراءة البيانات لكنّه لا يستطيع قراءة النية لهذا أصبح الامتثال اليوم ليس صراعًا بين الإنسان والآل بل تحالفًا بين عقل بشري واعٍ وآلة لا تنام.
في زمن السرعة، الذكاء الاصطناعي، والتحويلات التي تتم في أجزاء من الثانية النجاح الحقيقي لم يعد في تتبّع المال القذر،
بل في التنبؤ بخطواته قبل أن يبدأ المشي، أسواق اليوم لا تحتاج إلى محقق مالي، بل إلى خبير تنبؤ قادر على فهم ما وراء الأرقام وما وراء النوايا وفي زمنٍ يركض فيه المال القذر بلا هوية، لا يكفي أن نراقب، ولا يكفي أن نُلاحق، بل علينا أن نتوقع، ونفكّر، ونسبق فالمستقبل لن يحميه الأسرع، بل سيحميه الأذكى.
الجريمة لم تعد تنتظر… فهل نحن مستعدون؟!!




