
بقلم: د. محمد جميل الشبشيري
في المقالات السابقة من سلسلتنا حول أزمة الإيجارات القديمة في مصر، استعرضنا حجم المشكلة وتطورها التاريخي، وناقشنا الآثار الاقتصادية والاجتماعية للتحرير المفاجئ، وحللنا العلاقة المختلة بين نمو الأجور والإيجارات، واستعرضنا تجارب دولية في التعامل مع الأزمة، وقدمنا خارطة طريق للحل ورؤية اقتصادية للفوائد المتوقعة من التحرير المتوازن.
في هذا المقال الأخير من السلسلة، نتناول موضوعاً محورياً يمكن أن يشكل حلاً مستداماً لأزمة الإيجارات القديمة: كيف يمكن توظيف الضرائب والرسوم العقارية في تمويل الانتقال السلس نحو تحرير سوق الإسكان؟
ثروة عقارية هائلة وإيرادات ضريبية متواضعة
تمثل الثروة العقارية في مصر أحد أهم مكونات الاقتصاد الوطني، بقيمة تقديرية تتجاوز 10.75 تريليون جنيه، موزعة على أكثر من 43 مليون عقار. ورغم هذا الحجم الهائل، تظل إيرادات الضرائب العقارية متواضعة مقارنة بإمكاناتها الحقيقية.
“المفارقة الكبرى أن الدولة تجمع ضرائب ورسوماً عقارية متنوعة، لكنها لا توظفها في حل أزمة الإسكان، بل تذهب معظمها إلى الموازنة العامة دون تخصيص”، هذه الحقيقة تفتح الباب أمام إعادة التفكير في كيفية استخدام هذه الموارد.
خريطة الضرائب والرسوم العقارية في مصر
الضريبة العقارية: إمكانات غير مستغلة
تفرض الضريبة العقارية بنسبة 10% من القيمة الإيجارية السنوية بعد خصم 30% للوحدات السكنية و32% للوحدات غير السكنية. ويبلغ حد الإعفاء الحالي 2 مليون جنيه للوحدات السكنية (المسكن الرئيسي للمالك)، مع اقتراحات لرفعه إلى 5 ملايين جنيه.
رغم أن هذه الضريبة تعد من أقدم أنواع الضرائب في مصر، إلا أن حصيلتها تظل متواضعة بسبب ارتفاع حد الإعفاء، وضعف آليات الحصر والتقييم، والتهرب الضريبي، وعدم تحديث القيم الإيجارية المتخذة أساساً للضريبة.
ضريبة التصرفات العقارية: من النسبة إلى المقطوعية
شهدت هذه الضريبة تحولاً جوهرياً في السنوات الأخيرة، من نظام النسبة المئوية (2.5% من قيمة العقار) إلى نظام الضريبة المقطوعة بالشرائح، الذي يبدأ من 1500 جنيه للعقارات أقل من 250 ألف جنيه، ويصل إلى 5000 جنيه للعقارات أكثر من مليون جنيه.
هذا التحول، وإن كان يهدف إلى تشجيع تسجيل العقارات، إلا أنه أدى إلى تخفيض العبء الضريبي على العقارات ذات القيمة المرتفعة، وبالتالي تقليل الإيرادات المحتملة من هذه الضريبة.
رسوم تسجيل العقارات: تخفيض يهدر الإيرادات
تم تخفيض رسوم تسجيل العقارات إلى 3900 جنيه كرسوم ثابتة، بالإضافة إلى 100 جنيه مصروفات إدارية، بدلاً من النظام السابق الذي كان يعتمد على نسب متدرجة من قيمة العقار.
هذا التخفيض، وإن كان يهدف إلى تشجيع التسجيل العقاري، إلا أنه أدى أيضاً إلى تقليل الإيرادات المحتملة، خاصة من العقارات ذات القيمة المرتفعة.
الرسوم العقارية المختلفة وحجم إيراداتها
تفرض الدولة المصرية مجموعة متنوعة من الرسوم العقارية التي تشكل مصدراً مهماً للإيرادات، لكنها غالباً ما تكون غير مخصصة لتطوير قطاع الإسكان. وتشمل هذه الرسوم:
رسوم المصاريف الإدارية: تُفرض بنسبة 1% من إجمالي قيمة الوحدة السكنية أو الأرض عند البيع أو التنازل، وتذهب إلى الجهات الإدارية المختصة. وفقاً لبيانات وزارة الإسكان، بلغت حصيلة هذه الرسوم نحو 3.8 مليار جنيه في العام المالي 2024/2025.
رسوم مجالس الأمناء: تُفرض بنسبة 0.5% من إجمالي قيمة الوحدة السكنية أو الأرض عند البيع أو التنازل، وتُخصص لصالح مجالس أمناء المدن الجديدة لتمويل أعمال الصيانة والتطوير. بلغت حصيلة هذه الرسوم نحو 1.9 مليار جنيه في العام المالي 2024/2025.
رسوم الإسكان الاجتماعي: تخصص نسبة 5% من قيمة بيع الأراضي الاستثمارية والسكنية الفاخرة لصالح صندوق الإسكان الاجتماعي، وهو ما يوفر تمويلاً سنوياً يقدر بنحو 4.5 مليار جنيه. هذه الرسوم تمثل أحد المصادر الرئيسية لتمويل مشروعات الإسكان الاجتماعي، التي استفاد منها أكثر من 1.2 مليون أسرة حتى الآن.
رسوم التنازل: تفرض على عمليات التنازل عن الوحدات السكنية والأراضي في المدن الجديدة، وتتراوح بين 2% و5% من قيمة الوحدة. شهدت هذه الرسوم تخفيضاً بنسبة 50% في أكتوبر 2024 لتشجيع تسجيل التنازلات، مما أدى إلى زيادة الإقبال على التسجيل وارتفاع الحصيلة إلى نحو 2.7 مليار جنيه.
رسوم التسجيل العقاري: تبلغ 3900 جنيه للوحدة السكنية بغض النظر عن قيمتها، بالإضافة إلى 100 جنيه مصروفات إدارية. بلغت حصيلة هذه الرسوم نحو 2.1 مليار جنيه في العام المالي 2024/2025.
إجمالي هذه الرسوم العقارية المختلفة يقدر بنحو 15 مليار جنيه سنوياً، وهو مبلغ كبير يمكن توجيه جزء منه لحل أزمة الإيجارات القديمة من خلال آلية تشريعية واضحة تضمن استدامة التمويل وعدالة التوزيع.
نمو طموح في الإيرادات العقارية
تستهدف موازنة 2025/2026 تحقيق إيرادات من ضرائب الممتلكات تبلغ 361.7 مليار جنيه، بزيادة 55.4% عن العام السابق، وهي نسبة زيادة تفوق نسبة الزيادة المستهدفة في إجمالي الإيرادات الضريبية (31.3%).
هذا الاستهداف الطموح يشير إلى توجه الحكومة نحو الاعتماد بشكل أكبر على الضرائب العقارية في المستقبل، من خلال تحسين آليات الحصر والتحصيل، واستهداف العقارات الفاخرة، وتشجيع التسجيل العقاري.
ومع ذلك، تظل حصيلة الضرائب العقارية متواضعة مقارنة بحجم الثروة العقارية في مصر، حيث تمثل أقل من 3.5% من إجمالي القيمة التقديرية للعقارات، وهي نسبة منخفضة مقارنة بالمعدلات العالمية.
الفجوة بين الإيرادات والاستخدام: فرصة ضائعة
تذهب معظم الإيرادات العقارية حالياً إلى الموازنة العامة للدولة، دون تخصيص نسبة محددة لتطوير القطاع العقاري أو حل مشكلاته المزمنة، مثل أزمة الإيجارات القديمة.
يتم توجيه جزء من هذه الإيرادات لتطوير البنية التحتية والمرافق العامة، لكن لا توجد آلية واضحة لربط الإيرادات العقارية بتطوير المناطق التي تأتي منها هذه الإيرادات، أو بحل مشكلات سوق الإسكان.
هذه الفجوة بين الإيرادات والاستخدام تمثل فرصة ضائعة لتوظيف الموارد المالية المتاحة في تطوير سوق الإسكان وحل مشكلاته المزمنة.
إيرادات التصالح في مخالفات البناء: مورد هائل غير مستغل
تمثل إيرادات التصالح في مخالفات البناء أحد أهم الموارد المالية غير المستغلة التي يمكن توجيهها لحل أزمة الإيجارات القديمة. وفقاً لبيانات وزارة التنمية المحلية، بلغ عدد طلبات التصالح التي تم البت فيها حتى مايو 2025 نحو 1.75 مليون طلب، بإجمالي إيرادات تجاوزت 23 مليار جنيه.
ومع استمرار فتح باب التصالح حتى نوفمبر 2025 بموجب قرار رئيس الوزراء الصادر في أبريل 2025، من المتوقع أن تصل الإيرادات الإجمالية إلى نحو 35 مليار جنيه، وهو مبلغ ضخم يمكن استثمار جزء منه في حل أزمة الإيجارات القديمة.
تتراوح رسوم التصالح في مخالفات البناء بين 50 جنيهاً و5000 جنيه للمتر المربع، حسب المنطقة والمستوى العمراني وتوافر الخدمات، مما يجعلها مصدراً مهماً للإيرادات، خاصة في المناطق الحضرية ذات القيمة العقارية المرتفعة.
يمكن تخصيص نسبة 20% من إيرادات التصالح في مخالفات البناء (حوالي 7 مليارات جنيه) لصالح صندوق دعم تحرير الإيجارات، مما يوفر تمويلاً إضافياً لبرامج الدعم المختلفة، ويساهم في تخفيف الأعباء على الموازنة العامة.
هذا التخصيص يمكن أن يكون جزءاً من استراتيجية متكاملة لإعادة توجيه الإيرادات العقارية نحو حل مشكلات سوق الإسكان، بما في ذلك أزمة الإيجارات القديمة، وتطوير المناطق العشوائية، وتوفير سكن لائق للفئات محدودة الدخل.
الربط بين أزمة الإيجارات القديمة والضرائب العقارية
كما أوضحنا في المقال الثالث من سلسلتنا، يبلغ حجم الدعم غير المباشر الذي يتحمله ملاك العقارات القديمة حوالي 52.5 مليار جنيه سنوياً. هذا المبلغ يمثل الفرق بين الإيجارات الحالية والقيمة السوقية العادلة.
من المفارقات أن هذا المبلغ يقارب 15% من إجمالي الإيرادات المستهدفة من ضرائب الممتلكات في موازنة 2025/2026. بمعنى آخر، لو تم تخصيص 15% فقط من الإيرادات العقارية لحل أزمة الإيجارات القديمة، لأمكن تعويض الملاك بالكامل عن الفرق بين الإيجار القديم والإيجار العادل.
صندوق دعم تحرير الإيجارات: آلية مقترحة
يمكن توظيف جزء من الإيرادات العقارية لحل أزمة الإيجارات القديمة، من خلال إنشاء صندوق خاص لدعم تحرير الإيجارات، يمول من 10% من إيرادات الضرائب العقارية (36-50 مليار جنيه سنوياً).
هذا المبلغ يكفي لتغطية الاحتياجات المالية لبرامج الدعم المختلفة، التي تقدر بحوالي 45-60 مليار جنيه سنوياً، وتشمل:
برنامج الدعم النقدي المباشر للمستأجرين
يستهدف المستأجرين محدودي الدخل، ويقدم دعماً نقدياً مباشراً يتناقص تدريجياً على مدى 8-10 سنوات، بتكلفة تقديرية 20-25 مليار جنيه سنوياً في السنوات الأولى.
هذا البرنامج يضمن عدم تأثر المستأجرين محدودي الدخل بالزيادات في الإيجارات، مع إعطائهم فرصة للتكيف تدريجياً مع الوضع الجديد.
برنامج دعم ترميم وصيانة العقارات القديمة
يقدم قروضاً ميسرة ومنحاً مباشرة للملاك لترميم وصيانة العقارات القديمة، بتكلفة تقديرية 15-20 مليار جنيه سنوياً.
هذا البرنامج يساهم في الحفاظ على الثروة العقارية وتحسين ظروف السكن، ويمكن أن يشترط على الملاك الحفاظ على إيجارات معقولة لفترة محددة مقابل الدعم.
برنامج الإسكان البديل
يوفر وحدات سكنية بديلة بنظام الإيجار الميسر أو التمويل العقاري المدعوم، بتكلفة تقديرية 10-15 مليار جنيه سنوياً.
هذا البرنامج يوفر بدائل سكنية للمستأجرين الذين لا يستطيعون تحمل الزيادات في الإيجارات، ويساهم في زيادة المعروض من الوحدات السكنية في سوق الإيجار.
نماذج دولية ناجحة في توظيف الضرائب العقارية
هناك العديد من النماذج الدولية الناجحة في توظيف الإيرادات العقارية لحل مشكلات سوق الإسكان، منها:
النموذج الفرنسي: صندوق التضامن السكني
يمول من ضريبة خاصة على العقارات الفاخرة، ويقدم دعماً مباشراً للمستأجرين محدودي الدخل، ويمول برامج الإسكان الاجتماعي.
نجح هذا النموذج في توفير سكن لائق لملايين الفرنسيين محدودي الدخل، مع الحفاظ على حقوق الملاك وتشجيع الاستثمار في قطاع الإسكان للإيجار.
النموذج الألماني: برنامج دعم ترميم المباني القديمة
يمول من ضرائب عقارية مخصصة، ويقدم قروضاً ميسرة وإعفاءات ضريبية للملاك، مع اشتراط الحفاظ على إيجارات معقولة مقابل الدعم.
ساهم هذا البرنامج في تحسين حالة المباني القديمة في المدن الألمانية، وتوفير سكن لائق بأسعار معقولة، مع تحقيق عائد مناسب للملاك.
النموذج الأردني: تجربة تحرير الإيجارات القديمة
تمت على مدى 10 سنوات، مع إنشاء صندوق دعم للمستأجرين محدودي الدخل، وتقديم إعفاءات ضريبية للملاك خلال فترة الانتقال.
نجحت هذه التجربة في تحرير سوق الإيجارات تدريجياً، مع توفير شبكة أمان للمستأجرين محدودي الدخل، وتحقيق عائد مناسب للملاك.
الآثار المتوقعة لتوظيف الإيرادات العقارية في حل الأزمة
الآثار الاقتصادية
– تنشيط سوق العقارات وزيادة الاستثمار في قطاع الإسكان للإيجار
– تحسين حالة العقارات القديمة وزيادة قيمتها السوقية
– زيادة الإيرادات الضريبية نتيجة ارتفاع قيمة العقارات وزيادة معدلات التسجيل
– تنشيط قطاع البناء والتشييد وخلق فرص عمل جديدة
الآثار الاجتماعية
– تحسين ظروف السكن وتقليل مخاطر انهيار المباني
– توفير شبكة أمان للمستأجرين محدودي الدخل
– تحقيق العدالة الاجتماعية بإنصاف الملاك وتوزيع عبء الدعم على المجتمع ككل
الآثار على المدى الطويل
– استدامة سوق الإسكان وتصحيح تشوهاته
– تطوير المناطق العمرانية القديمة والحفاظ على التراث المعماري
– تطوير منظومة الضرائب العقارية وزيادة كفاءتها
توصيات عملية لتفعيل دور الضرائب العقارية في حل الأزمة
توصيات تشريعية وتنظيمية
1- إصدار تشريع متكامل لإنشاء صندوق دعم تحرير الإيجارات
2- تعديل قانون الضرائب العقارية لتخصيص 10% من الإيرادات للصندوق
3- تعديل قانون الإيجارات القديمة لتحديد مسار تدريجي للتحرير على مدى 8-10 سنوات
4- إنشاء هيئة تنسيقية تضم ممثلين عن وزارات الإسكان والمالية والعدل للإشراف على تنفيذ البرامج
توصيات مالية واقتصادية
1- فرض ضريبة إضافية على العقارات الفاخرة والوحدات الشاغرة لتمويل الصندوق
2- تطوير آليات استهداف دقيقة للمستأجرين محدودي الدخل
3- جذب التمويل الدولي والشراكة مع القطاع الخاص في برامج الإسكان البديل
4- تطوير آليات الرقابة والمتابعة لضمان وصول الدعم لمستحقيه
توصيات اجتماعية وإعلامية
1- إطلاق حملة توعية شاملة لتوضيح أهداف وآليات التحرير التدريجي
2- إنشاء منصات للحوار بين الملاك والمستأجرين
3- إشراك منظمات المجتمع المدني في التوعية والرقابة
4- تطوير آليات لفض المنازعات بطرق ودية
خاتمة: نحو رؤية متكاملة لإصلاح سوق الإسكان
تمثل الضرائب والرسوم العقارية في مصر فرصة غير مستغلة لإصلاح سوق الإسكان وحل أزمة الإيجارات القديمة. من خلال توظيف جزء من هذه الإيرادات في برامج دعم متكاملة، يمكن تحقيق التوازن بين حقوق الملاك والمستأجرين، وتطوير سوق الإسكان المصري، وتحقيق العدالة الاجتماعية.
كما استعرضنا في سلسلة مقالاتنا، فإن أزمة الإيجارات القديمة هي نتاج لسياسات اقتصادية واجتماعية متراكمة على مدى عقود، وحلها يتطلب مقاربة شاملة تعالج جذور المشكلة وليس أعراضها فقط.
إن نجاح هذه المقاربة يتطلب إرادة سياسية قوية، وتنسيقاً فعالاً بين الجهات المختلفة، ومشاركة مجتمعية واسعة. لكن النتائج المتوقعة تستحق هذا الجهد، فهي تعد باقتصاد أكثر استدامة، ومجتمع أكثر عدالة، وسوق إسكان أكثر كفاءة.
وبهذا نختتم سلسلة مقالاتنا حول “آثار تطبيق قانون الإيجارات القديمة في مصر”، آملين أن تكون قد ساهمت في إثراء النقاش حول هذه القضية المهمة، وتقديم رؤية متكاملة للحل تراعي مصالح جميع الأطراف.