“حوكمة الشركات الصغيرة” الخطر القادم الذي لا ينتبه له أحد
بقلم : عمرو علاء
مسؤول مطابقة والتزام
في السنوات الأخيرة ركزت الجهات الرقابية في الوطن العربي والعالم بشكل كبير على البنوك والمؤسسات المالية مثل (شركات الاستثمار، شركات التمويل وشركات الوساطة) وهذا طبيعي، لأنها الكيانات الأكثر تأثيرا على استقرار النظام المالي.
لكن بينما يتجه الضوء نحو الكيانات الضخمة، هناك “مساحة مظلمة” تنمو بصمت، مساحة اسمها “الشركات الصغيرة والمتوسطة“.
قد تبدو هذه الشركات بسيطة، محدودة الموظفين، وصغيرة في الأصول لكنها اليوم أصبحت بوابة هائلة للمخاطر، الفساد، سوء الإدارة، وغسل الأموال ولا أحد ينتبه أنها الخطر القادم.
لماذا الشركات الصغيرة خطر حقيقي؟
1. لأن حجمها الصغير يجعلها خارج الرادار.
لا تملك هذه الشركات لجان تدقيق أو مجلس إدارة حقيقي، وفي أحيان كثيرة يكون:
* المدير = المالك
* المالك = المحاسب
* المحاسب = آخذ القرار
وهذا الدمج بين السلطات يخلق بيئة مثالية لأي خلل إداري أو مالي.
2. لأن غياب الحوكمة يفتح الباب للفوضى
في الشركات الصغيرة كل شيء يتم “بعلاقات” وليس بسياسات وإجراءات حيث (عقود بدون مراجعة، موظفون يتم تعيينهم بالمزاج، مصاريف بلا سقف، غياب أي تدقيق داخلي وحسابات مختلطة بين مال الشركة ومال المالك) وبما أن هذه الشركات بعيدة عن أعين الإعلام والرقابة والمحاسبة فالأخطاء لا تُرى، ولكنها تتراكم.
3. لأنها أصبحت أداة مثالية لغسل الأموال.
أكبر الجهات الدولية مثل مجموعة العمل المالي ووكالة الاتحاد الأوروبي للتعاون في مجال إنفاذ القانون تؤكد أن الشركات الصغيرة هي الوسيلة الأسرع لإخفاء المال القذر لأنها (تصدر فواتير بسهولة، تفتح حسابات بسهولة، يصعب تتبع عملياتها، لا تملك أنظمة رقابية وتستقبل دفعات ضخمة بلا إثارة شبهة).
شركة صغيرة لا تملك مكتبًا حقيقيا يمكن أن تمرر الملايين عبر حسابها دون أن يشعر أحد.
الانفجار الصامت حين تسقط شركة صغيرة
عندما تنهار شركة كبيرة الخبر يهز الأسواق، لكن حين تسقط شركة صغيرة تسقط في صمت، لكنها تسقط على رؤوس )موظفين، موردين، متعاملين، مقرضين، عملاء وحتى السوق نفسه)، والأسوأ أن الكثير من جرائم الاحتيال في العالم بدأت من شركات صغيرة لم يعرف أصحابها كلمة “حوكمة”.
مدى احتياج الشركات الصغيرة للحوكمة
الحوكمة ليست رفاهية للشركات الكبيرة فقط، بل ضرورة للشركات الصغيرة أيضاً لأنها (تمنع الفوضى، تحمي أموال الشركة، تفصل بين مال المالك ومال المؤسسة، ترفع ثقة البنوك، تحسن الالتزام الضريبي، تمنع الاحتيال الداخلي، تحمي من التورط في غسل الأموال وتضمن استمرارية الشركة، والأهم أن الحوكمة تمنع الشركة الصغيرة من أن تكون أداة بيد شخص واحد لا يُحاسب.
الخطأ الأكبر
يقع الكثير من أصحاب الشركات الصغيرة والمتوسطة في خطأ من الممكن أن ينهي مسيرة الشركة وهو “نحن شركة صغيرة، لا نحتاج لهذه الأشياء”، هذه الجملة هي التي أسقطت (متاجر، مطاعم، صالونات، شركات مقاولات، شركات ذهب، شركات تجارة عامة وشركات إلكترونيات) لأنهم اعتقدوا أن الحوكمة “للكبار فقط”، لكن الحقيقة أن غياب الحوكمة يقتل الصغار قبل الكبار.
تحذير
الخطر لا يأتي من الخارج، بل من الداخل، والتهديدات التي تواجه الشركات الصغيرة تأتي غالبًا من (موظف موثوق، شريك صامت، محاسب داخلي، مدير مشتريات، طرف خارجي يستغل الشركة، وشخص يستعمل الشركة كغطاء لغسل الأموال) ولأن الشركة صغيرة، لا أحد يراقب ولا أحد يراجع ولا أحد يسأل أين ذهبت الأموال.
في الختام
لا يسعنا إلا أن نناشد لأن الخطر لم يعد نظرياً، بل واقعاً يتكرر يومياً، فإن التركيز على الشركات الكبيرة وحده لم يعد كافيًا.
آن الأوان أن تمتد يد الرقابة لتشمل الشركات الصغيرة والمتوسطة، ولو بحد أدنى من الحوكمة والإفصاح، إطار مبسط لكنه واضح و قادر على حماية سوق كامل من الانهيار، وحماية أصحاب الأعمال والمساهمين من مخاطر قد لا يرونها إلا بعد فوات الأوان.
إن إلزام هذه الشركات بأسس حوكمة أولية ليس عبئاً، بل ضرورة اقتصادية واستثمارية، ودرع حماية لاقتصاد قومي لا يتحمل سقوط الشركات الصغيرة التي صارت اليوم بوابة للمخاطر وهدفا سهلاً لغسل الأموال.
الشركات الصغيرة هي الأكثر هشاشة، والأسرع سقوطا، والأسهل اختراقا، والأخطر على الاقتصاد حين تُستخدم كجسر لغسل الأموال، فالحوكمة ليست أوراقًا، بل هي إطفاء للمخاطر قبل أن تولد.
“أكبر الانهيارات تبدأ من أصغر الإهمالات”




