مقالات

كيف أجبر مستثمرو السندات ترامب على تجميد الرسوم الجمركية؟

 

في تحرك دراماتيكي، أجبر انهيار سوق سندات الخزانة الأميركية الرئيس دونالد ترامب على تعليق الرسوم الجمركية التي كانت منتظرة منذ فترة طويلة. خلال 13 ساعة فقط من بدء تنفيذ الرسوم في 9 أبريل، كانت قوة السوق كفيلة بدفع الإدارة الأميركية إلى التراجع.
على الرغم من أن ترامب لم يتأثر بانهيار أسواق الأسهم – التي فقدت أكثر من 6 تريليونات دولار من قيمتها السوقية – ولا بالتحذيرات القادمة من قادة دوليين وأعضاء من حزبه، إلا أن انهيار سوق السندات شكّل تهديداً لا يمكن تجاهله.
فور دخول الرسوم حيّز التنفيذ، تسارعت عمليات بيع سندات الخزانة مع تنامي المخاوف من ارتفاع معدلات التضخم وتراجع الإقبال الأجنبي على الأصول الأميركية، مما دفع العوائد على السندات المستحقة بعد 30 عاماً إلى تجاوز 5%، وهو أعلى مستوى منذ عامين. وبعد إعلان التجميد، تراجعت العوائد إلى نحو 4.8%.
ترامب علّق قائلاً: “سوق السندات معقدة جداً، كنت أراقبها”، معترفاً بشكل غير مباشر بوقع الضغوط.
البيع المكثف: رسالة قوية للحكومات
يشكل البيع الجماعي للسندات إنذاراً من العيار الثقيل، إذ يؤدي إلى ارتفاع العوائد وزيادة تكلفة اقتراض الحكومات، ما يفرض ضغوطاً مالية قد تؤدي إلى إعادة ترتيب الأولويات الاقتصادية. استمرار هذه الموجة كان سيجعل من تنفيذ ترامب لخطط خفض الضرائب أمراً شبه مستحيل، نظراً لاحتمال تضخم العجز في الميزانية بصورة حادة.

الخبير الاقتصادي إد يارديني، الذي صاغ مصطلح “مؤثري السندات” في تقرير له عام 1983، وصف تراجع ترامب بأنه “نصر جديد” لهؤلاء المستثمرين الذين يضغطون على الحكومات عبر السوق. وكتب قائلاً: “هم الوحيدون الذين يحققون نسبة نجاح 100%”.
كيف يتحكم مؤثرو السندات بالسياسات الاقتصادية؟
عندما تتبنى الحكومات سياسات توسعية قد تذكي التضخم أو ترفع العجز المالي، يبدأ مستثمرو السندات بالتخارج، مما يؤدي إلى تراجع الأسعار وارتفاع العوائد، وبالتالي رفع تكلفة الاقتراض الحكومي إلى مستويات قد تهدد الاستقرار المالي. هذا “الإضراب” عن شراء السندات يجبر الحكومات على التراجع وإعادة ترتيب سياستها المالية.
وقد أثبت هؤلاء المؤثرون فاعليتهم أكثر من مرة. ففي التسعينيات، أجبروا الرئيس بيل كلينتون على تعديل أجندته المحلية والتركيز على خفض العجز. وبحسب الصحفي بوب وودوارد في كتابه “الأجندة”، عبّر كلينتون عن إحباطه قائلاً لمساعديه: “أتقصدون أن نجاح برنامجي وإعادة انتخابي يعتمدان على الاحتياطي الفيدرالي ومتداولي السندات؟”.
وفي السويد خلال الفترة نفسها، تراجعت الحكومة عن خططها بعد تهديدات من كبار المستثمرين بالتوقف عن شراء السندات، مما أجبرها على خفض الإنفاق العام.
حجم وهيكل وآليات عمل سوق السندات الأميركية
يُعد سوق السندات الأميركي الأكبر والأكثر تعقيداً في العالم، حيث بلغ إجمالي القيمة الاسمية لسندات الخزانة المتداولة نحو 27 تريليون دولار بنهاية عام 2024. يتوزع هذا السوق بين مجموعة واسعة من الأدوات تشمل سندات الخزانة قصيرة الأجل (أذونات الخزانة)، متوسطة الأجل (سندات الخزانة)، وطويلة الأجل (سندات الثلاثين عاماً).
يتحكم الاحتياطي الفيدرالي، والبنوك التجارية، وصناديق الاستثمار، وصناديق التقاعد، والمستثمرون الأجانب، وصناديق التحوط في معظم التداولات. وتُدار عمليات البيع والشراء في الغالب عبر سوق ثانوي ضخم يتميز بسيولة عالية وآليات تسعير دقيقة تعتمد على المزادات المفتوحة التي تجريها وزارة الخزانة الأميركية بصورة دورية.
تلعب أدوات المشتقات، مثل العقود الآجلة والمبادلات المرتبطة بأسعار الفائدة، دوراً متزايداً في إدارة المخاطر وتقلبات السوق، مما يعزز من تأثير سوق السندات على السياسة المالية والنقدية في الولايات المتحدة والعالم.
التفاعل بين السياسة النقدية وسوق السندات: أبعاد سياسية واجتماعية
على الرغم من قوة “مؤثري السندات”، فإن دور الاحتياطي الفيدرالي يظل عاملاً حاسماً قد يعزز أو يحد من تأثيرهم. فخلال العقد الماضي، مثّلت سياسات التيسير الكمي (شراء السندات الحكومية من قبل البنك المركزي) درعاً واقياً للحكومات ضد تقلبات السوق، حيث ضخت البنوك المركزية سيولة كافية لقمع العوائد المرتفعة. لكن مع تحول الاحتياطي الفيدرالي إلى رفع أسعار الفائدة لمكافحة التضخم، أصبحت السندات أكثر حساسية لضغوط المستثمرين، مما أعاد السلطة إلى “مؤثري السندات”.
من الناحية السياسية، لا يمكن فصل هذه الديناميكية عن الاستقطاب في واشنطن. ففي حين يدفع الجمهوريون لخفض الضرائب وزيادة الإنفاق العسكري، يعارض الديمقراطيون أي تقليص لبرامج الرعاية الاجتماعية. هذا الانقسام يجعل التوصل إلى حلول وسطى لخفض العجز أمراً صعباً، مما يزيد مخاوف المستثمرين من استمرار التدهور المالي. بل إن بعض المحللين يرون أن سوق السندات أصبح سلاحاً غير مباشر في الصراع بين الإدارة والكونغرس، حيث يُستخدم الارتفاع الحاد في العوائد كضغط لإجبار السياسيين على التراجع عن سياسات مكلفة.
على الصعيد الاجتماعي، قد تتحول هذه المعركة إلى أزمة ثقة عامة. فمع ارتفاع تكلفة الاقتراض الحكومي، قد تضطر الإدارة إلى خفض الإنفاق على البنية التحتية أو الرعاية الصحية، مما يزيد السخط الشعبي. كما أن ارتفاع عوائد السندات يقود إلى زيادات في أسعار الفائدة على القروض الاستهلاكية والرهون العقارية، مما يضيف أعباءً على الأسر العاملة. في المقابل، قد يرى جزء من الناخبين أن استجابة ترامب لضغوط السوق هي تنازل عن أجندته الاقتصادية لصالح النخب المالية، مما يهدد شعبيته بين قاعدته التي ترفض “سياسة وول ستريت”.
هذه التفاعلات تُظهر أن سوق السندات ليس مجرد أداة مالية جافة، بل هو ساحة صراع تتقاطع فيها المصارف المركزية، والمستثمرون، والسياسيون، والمجتمع. وإذا فشلت الإدارة في تحقيق توازن بين هذه القوى، فقد تواجه الولايات المتحدة ليس فقط أزمة ديون، بل أيضاً أزمة شرعية سياسية واجتماعية.
عودة النفوذ بعد كورونا
بعد سنوات من تراجع تأثير مؤثري السندات بسبب تدخلات البنوك المركزية، عادت قوتهم للواجهة بعد جائحة كورونا. ارتفاع الديون العامة حول العالم إلى مستويات غير مسبوقة، مصحوباً بتضخم متسارع، أعاد إلى الأسواق ديناميكيات التسعينيات.
في عام 2022، تعرضت السندات الحكومية لخسارة قياسية بلغت 17% على مستوى العالم. وأطاحت موجة بيع السندات السريعة في المملكة المتحدة برئيسة الوزراء ليز تراس بعد 44 يوماً فقط من توليها المنصب، عقب إعلانها عن خطط خفض ضريبي واسع.

الولايات المتحدة أمام تحديات خطر
اليوم، تتزايد المخاوف من أن الولايات المتحدة قد تواجه “دوامة هلاك لسوق السندات”، وفقاً لما عبّر عنه جيه دي فانس، نائب الرئيس الحالي ورفيق ترامب في السباق الانتخابي.
فمع ارتفاع الدين إلى مستويات تقترب من حجم الاقتصاد الأميركي نفسه، وتسجيل عجز مالي في 2024 بلغ 6.4% من الناتج المحلي الإجمالي، تبدو الضغوط المالية مرشحة للتفاقم. فقط مدفوعات الفائدة على الدين الأميركي، التي تجاوزت 28 تريليون دولار، باتت تفوق ما تنفقه البلاد على الدفاع الوطني.
راي داليو، مؤسس “بريدج ووتر أسوشيتس”، حذر بدوره من أن فقدان الحكومة الأميركية القدرة على تمويل ديونها “مرجح” في السنوات المقبلة إذا لم يتم تقييد العجز المالي.
مؤشرات القلق من سياسات ترامب
تُظهر العلاوة الزمنية على سندات الخزانة لأجل عشر سنوات، والتي ارتفعت إلى 0.7% في أبريل 2025 – أعلى مستوى منذ 2014 – أن القلق ينتشر بين المستثمرين حيال استدامة السياسة المالية الأميركية على المدى الطويل.
وزير الخزانة سكوت بيسنت حاول تهدئة الأسواق، واعداً بخفض العجز إلى 3% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية ولاية ترامب الثانية. لكنه، كما يقول يارديني، أقر ضمناً بقوة نفوذ مستثمري السندات قائلاً: “العجز مشكلة سياسية يمكن حلها، لكنها تحتاج إلى إرادة سياسية. أحياناً، نحتاج إلى إخافة السياسيين، ومؤثرو السندات قادرون على ذلك”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى