مقالات

رهن الخمسين عاماً: حل أم فخ؟

 

بقلم/ د. محمد جميل الشبشيري

 Elshebshiry@outlook.com

 

في خضم الارتفاع القياسي لأسعار المساكن وتشديد السياسات النقدية في الولايات المتحدة، عادت إلى الواجهة مقترحات تمويلية غير تقليدية، كان أبرزها فكرة إدخال الرهن العقاري الممتد لخمسين عامًا كآلية لتخفيف وطأة أزمة القدرة على تحمل تكاليف السكن على الأسر الأمريكية. ورغم أن هذا الطرح، الذي تبنته إدارة الرئيس دونالد ترامب سابقًا، يحمل جاذبية سطحية تتمثل في خفض القسط الشهري، إلا أنه يثير تساؤلات عميقة حول جدواه الاقتصادية ومخاطره الهيكلية على المدى الطويل.

أولًا: الدوافع الاقتصادية والمفارقة الحسابية

تشهد سوق الإسكان الأمريكية أزمة مركبة، حيث تضافرت عوامل شح المعروض مع الارتفاع الحاد في أسعار الفائدة الذي فرضه الاحتياطي الفيدرالي لمكافحة التضخم. وقد أدت هذه الظروف إلى تآكل غير مسبوق في القدرة الشرائية، خاصة لدى جيل المشترين لأول مرة، حيث أصبح القسط الشهري عائقًا رئيسيًا أمام التملك.

وفي هذا السياق، يبرز الرهن العقاري الممتد إلى نصف قرن كحل ظاهري، يقوم على مبدأ توزيع تكلفة القرض على فترة زمنية أطول، مما يقلل من حجم الدفعة الشهرية. لكن التحليل المالي يكشف عن مفارقة حسابية صارخة: فما يتم توفيره شهريًا يُدفع أضعافًا مضاعفة في إجمالي تكلفة القرض.

للتوضيح، يمكن مقارنة الرهن التقليدي (30 عامًا) بالرهن الممتد (50 عامًا) على أساس افتراضات مالية متطابقة، كشراء منزل بقيمة 400,000 دولار بسعر فائدة 6.2%. في هذه الحالة، ينخفض القسط الشهري التقريبي من 1,960 دولارًا في الرهن التقليدي إلى 1,760 دولارًا في الرهن الممتد، أي بتوفير شهري يبلغ نحو 200 دولار. لكن هذا التوفير البسيط يأتي على حساب زيادة هائلة في إجمالي الفوائد المدفوعة، حيث ترتفع من 425,000 دولار في الرهن التقليدي إلى 760,000 دولار في الرهن الممتد، مما يعني زيادة في إجمالي تكلفة المنزل بنحو 335,000 دولار. هذا التباين يؤكد أن التوفير الشهري البسيط يأتي على حساب زيادة هائلة في إجمالي الفوائد المدفوعة، مما يحول المنزل فعليًا إلى التزام مالي يمتد لأجيال.

ثانيًا: تباطؤ تكوين حقوق الملكية والمخاطر الهيكلية

لا يقتصر الضرر على التكلفة الإجمالية، بل يمتد إلى جوهر العلاقة بين الفرد وعقاره، وهي عملية تكوين حقوق الملكية (Equity). في الرهون طويلة الأجل، تذهب الغالبية العظمى من الدفعات في السنوات الأولى لسداد الفوائد، وليس أصل الدين.

هذا التباطؤ يعني أن مالك المنزل الذي يضطر لبيع عقاره بعد عشر سنوات، على سبيل المثال، سيكون قد راكم حقوق ملكية أقل بكثير مقارنة بمن استخدم قرضًا تقليديًا. وبذلك، يتحول السكن من أصل منتج للثروة الأسرية إلى مجرد التزام طويل الأجل، مما يضعف صافي ثروة الأسر ويقلل من قدرتها على استخدام العقار كضمان لتمويل تعليم الأبناء أو التقاعد.

وتبرز مخاطر هيكلية أخرى تتجاوز الفرد إلى النظام المالي والمجتمع:

1- توريث الديون: مع اقتراب متوسط عمر مشتري المنزل الأول من 33 عامًا، فإن الرهن لمدة 50 عامًا يعني أن القرض قد يمتد إلى ما بعد عمر المشتري المتوقع، ليصبح دينًا يورث للأبناء بدلًا من أصل عقاري.

2- ارتفاع احتمالات التعثر: إن امتداد مدة القرض يزيد من تعرض المقترضين للصدمات الحياتية المحتملة، مثل فقدان الوظيفة أو الطلاق أو المرض، مما يرفع من احتمالات التعثر في السداد على مدار الخمسة عقود.

3- تضخيم أسعار العقار: إن توفير تمويل أسهل وأطول أمدًا دون معالجة اختناقات العرض في سوق الإسكان، يؤدي حتمًا إلى ضخ المزيد من السيولة في السوق، مما يفاقم الضغوط التضخمية ويرفع أسعار الأصول العقارية بشكل مصطنع.

ثالثًا: السياسة النقدية الأمريكية وتأثيرها العابر للحدود

تلعب السياسة النقدية الأمريكية، التي يقودها الاحتياطي الفيدرالي، دورًا محوريًا في توجيه أسواق العقار عالميًا. فقرارات رفع أسعار الفائدة الأمريكية تضغط على السيولة العالمية، وترفع تكلفة الاقتراض في الأسواق المتقدمة والناشئة على حد سواء، مما يؤدي إلى تصحيحات سعرية في الأصول العقارية حول العالم.

في هذا الإطار، يمكن النظر إلى مقترح الرهن الممتد بوصفه محاولة لـ “تخفيف الأعراض” الناتجة عن التشديد النقدي، دون معالجة جذور الأزمة. إنه ينقل عبء السياسة النقدية من مستوى الاقتصاد الكلي إلى ميزانيات الأسر، ما قد يؤدي إلى هشاشة مالية أوسع على المدى المتوسط، بدلًا من تحقيق استقرار مستدام في سوق الإسكان.

وعلى المستوى الدولي، فإن التوسع الائتماني طويل الأجل قد يرفع أسعار الأصول دون تحسن حقيقي في القدرة الشرائية، مما يعمّق الفجوة بين القيمة السوقية والقيمة الاقتصادية الفعلية للعقار، ويجعل الاستثمار العقاري أقل جاذبية مقارنة بالعائد على الأصول الآمنة الأخرى، كالسندات الحكومية الأمريكية.

خاتمة: الحاجة إلى إصلاحات هيكلية

إن الرهن العقاري لمدة 50 عامًا ليس سوى مسكن للألم، يمثل في جوهره ترحيلًا للأزمة إلى المستقبل وتحويلًا للديون من جيل إلى آخر. فبدل أن يكون السكن أداة لبناء الثروة والاستقرار الاجتماعي، يتحول إلى عبء مالي طويل الأمد يستهلك جزءًا كبيرًا من دخل الأسر لعقود.

تظل المعالجة الحقيقية لأزمة الإسكان مرهونة بإصلاحات هيكلية أعمق وأكثر استدامة، تشمل:

1- زيادة المعروض السكني: عبر تسهيل تراخيص البناء وتطوير البنية التحتية.

2- تحسين كفاءة أسواق الأراضي: لمكافحة الاحتكار والمضاربة.

3- مواءمة نمو الأجور: ليتناسب مع أسعار الأصول، بدل الاعتماد على حلول ائتمانية توسعية تعيد إنتاج الاختلالات ذاتها بأشكال أكثر تعقيدًا.

إن التحدي الحقيقي يكمن في تحقيق توازن دقيق بين مكافحة التضخم والحفاظ على الاستقرار المالي، بعيدًا عن الحلول التمويلية التيس تزيد من المديونية وتضعف البنية الاقتصادية للأسر.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى