مقالات

عندما يُخنق الدولار نفسه: مخاطر خفض الفائدة تحت ضغوط ترامب

 

مقدمة

في ربيع 2025، عاد الجدل حول استقلالية البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى الواجهة، مع تصاعد الضغوط من الرئيس دونالد ترامب على رئيس الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، لخفض أسعار الفائدة. ما بدا كخطوة إيجابية للشركات والمستهلكين، كشف عن مخاطر اقتصادية قد تكون أشد من الأزمات السابقة. كيف يمكن لقرار سياسي واحد أن يقود الولايات المتحدة إلى مأزق اقتصادي أعمق؟ هذا هو السؤال المحوري في ظل التعريفات الجمركية الجديدة، تراجع التوقعات الاقتصادية، وتصاعد العجز المالي.

1- طفرة مبنية على سراب

في كتابه عن الدورات الاقتصادية، يشير لودفيج فون ميزس إلى أن خفض الفائدة بشكل حاد يشبه حقن الاقتصاد بوقود صناعي رخيص. في البداية، تظهر ملامح الازدهار: المصانع تعمل، الوظائف تتوفر، الأسواق تنتعش. لكن هذا الازدهار “المصطنع” لا يستند إلى استثمارات حقيقية مدعومة بالقوة الإنتاجية، مما يؤدي إلى انهيار مفاجئ عندما تتكشف هشاشة الأساس الاقتصادي.

ينذر هذا النمط بعودة ظاهرة “التوسع المضلل” الذي قد يؤدي إلى ركود عميق في حال فقد السوق الثقة في جدوى التحفيز النقدي المستمر، خاصةً إذا ترافق ذلك مع سياسات مالية توسعية وعجز متنامٍ.

2- استقلالية البنك المركزي تحت رحى السياسة

يشكل الحفاظ على استقلالية السياسة النقدية أحد أهم ركائز الاستقرار الاقتصادي طويل الأمد. إلا أن تدخل السلطة التنفيذية في قرارات الفيدرالي – كما يفعل ترامب علنًا – يهدد هذه الاستقلالية، ويثير القلق في الأسواق العالمية. فحين يُنظر إلى قرارات الفائدة على أنها استجابة لرغبات سياسية وليس لأهداف اقتصادية مدروسة، تتآكل الثقة في قدرة البنك المركزي على إدارة الدورة الاقتصادية بكفاءة وموضوعية.

رئيس الفيدرالي، جيروم باول، حذّر من أن التعريفات الجمركية الجديدة “أكبر بكثير مما كان متوقعاً”، وأنها قد تضع البنك في موقف معقد تتعارض فيه أهدافه المزدوجة: استقرار الأسعار وتحقيق التوظيف الكامل.

3- الإطار القانوني لاستقلال الفيدرالي

تأسس بنك الاحتياطي الفيدرالي بموجب قانون عام 1913، وجرى تعديل مهامه في عام 1977 ليصبح ملتزماً بتحقيق هدفين مزدوجين: أقصى قدر من التوظيف واستقرار الأسعار. ولا يخضع الفيدرالي لأي سلطة تنفيذية أو تشريعية مباشرة فيما يخص قرارات السياسة النقدية.

هذا الإطار القانوني وضع لحماية الاقتصاد الأمريكي من التقلبات السياسية قصيرة الأجل، إلا أن محاولات التأثير العلني من قبل البيت الأبيض تهدد بتقويض هذه الحماية، وتحويل السياسة النقدية إلى أداة سياسية، وليس اقتصادية.

4- تضخم مزدوج وضغوط على الأجور

أدى فرض تعريفات جمركية جديدة إلى ارتفاع تكاليف الواردات، وهو ما انعكس فوراً على مؤشرات الأسعار، لا سيما مؤشر نفقات الاستهلاك الشخصي الذي ارتفع بنسبة 2.5% على أساس سنوي في فبراير، متجاوزاً الهدف البالغ 2%.

في ذات الوقت، يؤدي خفض الفائدة إلى تحفيز الطلب الاستهلاكي. هذا التلاقي بين الضغوط التضخمية من جانب العرض والطلب يخلق ما يسمى بـ ”التضخم المزدوج”، وهو السيناريو الأخطر الذي تواجهه البنوك المركزية، إذ لا يمكن مواجهته بخفض الفائدة دون المخاطرة بفقدان السيطرة على الأسعار، ولا برفع الفائدة دون تعميق التباطؤ.

5. إدمان التحفيز ونشوء فقاعات الأصول

منذ الأزمة المالية 2008، اعتمد الاحتياطي الفيدرالي سياسة التحفيز المستمر: خفض الفائدة، والتيسير الكمي، وضخ السيولة. هذه الأدوات ساهمت في تعافي الأسواق، لكنها خلقت بيئة مشوهة للأسعار.

النتيجة كانت نشوء فقاعات في أسواق الأسهم والعقارات، مدفوعة بتدفقات المضاربة لا بالاستثمار الحقيقي. في حال حدوث أي صدمة خارجية – مثل اضطراب جيوسياسي أو ركود عالمي – فإن هذه الفقاعات ستكون أول ما ينفجر، وهو ما يُنذر بتداعيات قد تفوق تلك التي شهدناها في 2008.

6. انهيار الثقة وهروب العملة

مع تنامي الضغوط التضخمية والعجز المالي، ووضوح التدخل السياسي في السياسة النقدية، بدأت الثقة في الدولار الأمريكي بالتآكل. وهو ما تُرجم في سلوك المستثمرين عبر ما يُعرف بـ ”الهروب إلى الأصول الحقيقية”، مثل الذهب، والعقارات، والعملات الرقمية.

هذا الهروب يمثل إنذاراً مبكراً بفقدان الثقة في الدولار كعملة احتياط عالمية، وهو ما قد يُحدث أزمة في الاستقرار النقدي الأمريكي، تؤثر بدورها على النظام المالي الدولي بأكمله.

7. العجز المالي والدين العام: أزمة مزدوجة في الأفق

في هذه البيئة الاقتصادية المهزوزة، سجل العجز الفيدرالي الأمريكي 2.1 تريليون دولار في 2024، ومن المتوقع أن يتجاوز 2.3 تريليون دولار في 2025. أما الدين العام الأمريكي فقد بلغ أكثر من 34.8 تريليون دولار، وهو ما يمثل حوالي 128% من الناتج المحلي الإجمالي.

هذا الوضع يضع صانعي السياسة في مأزق: أي خفض إضافي للفائدة قد يؤدي إلى ضعف الإقبال على السندات الأمريكية، ما يضطر وزارة الخزانة إلى رفع العائدات لجذب المشترين، أو الاعتماد بشكل أكبر على تدخلات الفيدرالي. وفي كلا الحالتين، يتم إضعاف استقلالية السياسة النقدية، وتزيد الضغوط على سعر صرف الدولار.

8. تأثيرات على الأسواق المالية: الدولار، الذهب، والبتكوين

شهد مؤشر الدولار الأمريكي تراجعاً إلى 99.230 بنهاية الأسبوع، في حين سجل اليورو أعلى مستوياته منذ 2021، والفرنك السويسري والين الياباني قفزا إلى مستويات غير مسبوقة منذ شهور.

بالمقابل، ارتفعت أسعار الذهب إلى أكثر من 3400 دولار للأونصة، وارتفعت البتكوين بنسبة 2% لتتجاوز 86,000 دولار، مما يعكس إقبال المستثمرين على الأصول البديلة في ظل تراجع الثقة في العملة الأمريكية والنظام النقدي التقليدي.

خاتمة

ما نراه اليوم ليس مجرد اختلاف في الرأي بين البيت الأبيض والفيدرالي، بل أزمة ثقة مركبة تهدد استقرار الاقتصاد الأمريكي من الداخل. الضغط السياسي لتطويع أدوات السياسة النقدية يضعف الفيدرالي، ويهدد بزعزعة مصداقية الدولار عالمياً.

إذا لم تُستعاد الاستقلالية المؤسسية للبنك المركزي، وإذا لم يتم ضبط العجز المالي وتبعات الرسوم الجمركية، فإن الولايات المتحدة لن تواجه أزمة قصيرة المدى فقط، بل قد تُدخل الاقتصاد العالمي في مرحلة من عدم الاستقرار لم يشهدها منذ عقود.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى