الفائدة إلى الصفر والسالب… وداعًا نظرية عائد رأس المال

د. محمد جميل الشبشيري
لطالما شكّلت الفائدة جوهر النظرية الرأسمالية الكلاسيكية، بوصفها “عائد رأس المال” ومكافأة للمُقرض مقابل تأجيل استهلاكه. غير أن ما تشهده الاقتصادات العالمية – من سويسرا إلى اليابان، ومن أوروبا إلى دول الجنوب العالمي – يكشف عن تحوّل جوهري في وظيفة الفائدة، بل في مشروعيتها الاقتصادية، حيث تتآكل المدخرات وتتراجع قدرة البنوك المركزية على التأثير، في مشهد يدفعنا لإعادة النظر في جدوى هذه الأداة ومنطلقاتها النظرية والأخلاقية.
يحظر الإسلام الربا بصورة قاطعة، انطلاقًا من عدالة اقتصادية جوهرها منع الاستغلال وضمان تكافؤ الفرص. فالقرآن الكريم يُعلن بوضوح:
“وأحلّ الله البيع وحرّم الربا…” [البقرة: 275]
رغم هذا التحريم القطعي، دار في العقود الأخيرة جدل فقهي معاصر حول مدى انطباق هذا الحكم على فوائد البنوك وسعر الفائدة الحديث. وقد تبلور هذا الجدل في اتجاهين رئيسيين:
* الاتجاه الأول يرى أن الفائدة المصرفية – بصرف النظر عن صيغتها – تدخل في دائرة الربا المحرم، استنادًا إلى نصوص قطعية وقرارات المجامع الفقهية الكبرى.
* الاتجاه الثاني، وإن كان أقل شيوعًا، يفرّق بين الربا الجلي وبين الفائدة التي تُفرض لأهداف تنظيمية في سياق خالٍ من الظلم البيّن.
لكن الرأي الغالب في المؤسسات الفقهية المعتبرة يرى أن فوائد القروض الثابتة في البنوك التقليدية تمثل ربا محرمًا، وأن البديل الشرعي يكمن في العقود التمويلية الإسلامية المبنية على البيع والمشاركة والإيجار.
في هذا السياق، تُعد التجربة السويسرية مثالًا معبّرًا عن تآكل الثقة في سعر الفائدة كأداة اقتصادية. فقد اعتمد البنك الوطني السويسري فائدة سالبة بلغت –0.75% من 2015 حتى 2022، وفرض رسوماً على الإيداعات الكبرى. وفي يونيو 2025، خفّض البنك الفائدة إلى صفر بالمئة للمرة السادسة على التوالي، استجابة لانكماش الأسعار بنسبة –0.1%، وارتفاع الفرنك السويسري إلى أعلى مستوياته منذ عقد أمام الدولار، في ظل ضبابية اقتصادية ناجمة عن سياسات ترامب التجارية.
هذه التطورات تعكس انهيار الأساس النظري للفائدة؛ فرأس المال الذي كان يُنتظر منه تحقيق عائد، أصبح عبئًا على النظام المالي. ومع استمرار الضغوط الانكماشية، فإن العودة إلى الفائدة السالبة تظل احتمالًا واقعيًا.
ولا تقتصر الظاهرة على سويسرا؛ فقد سبقتها منطقة اليورو واليابان، وعبّرت كندا عن استعدادها للعودة إلى هذه السياسات. وفي كثير من الدول، باتت الفائدة الاسمية دون مستوى التضخم، ما يعني أن المدخرين يخسرون فعليًا من حيث القيمة الحقيقية لأموالهم.
في هذا المناخ، تفقد النقود وظيفتها الأساسية كمخزن للقيمة، لتتحول من وسيلة ادخار إلى عبء على أصحابها. فبدلًا من أن تكافئ المدخر، أصبحت النقود عرضة للتآكل أو الخصم، وأضحى النظام المالي غير قادر على توفير حوافز استثمارية فاعلة أو مستدامة.
وعلى ذلك، يمكن القول إن سعر الفائدة كأداة من أدوات السياسة النقدية أصبح أداة غير موثوق فيها للتحكم في كمية النقود والطلب عليها، والمعروض من النقود وإصدارها من قبل البنوك المركزية، التي أفرط عدد منها في طبع كميات كبيرة دون غطاء.
ونظريًا، فقد فشل الاقتصاديون الأوائل، مثل آدم سميث وريكاردو، في الوصول إلى الطريقة التي يتحدد بها عائد رأس المال. وكان أول من وضع أساسًا نظريًا لهذا المفهوم هو العالم “سنيور”، الذي رأى أن تكوين رأس المال يتطلب تأجيل الاستهلاك الحاضر لتوجيه بعض الموارد إلى أدوات رأسمالية. ومن ثم، فإن تكوين رأس المال يتطلب نوعًا من الحرمان المؤقت. ومن طبيعة الإنسان أنه يفضل الاستهلاك الحاضر على الآجل، إلا إذا تم تعويضه بفائدة مستقبلية أكبر.
وهكذا، اعتُبرت الفائدة في نظرية سنيور مكافأة لصاحب رأس المال مقابل هذا الحرمان، ومرتبطة بإنتاجية رأس المال مثل أي عنصر آخر من عناصر الإنتاج. وتتحدد بناءً على توازن العرض والطلب على رأس المال. وعلى الرغم من الاعتراضات على هذه النظرية، إلا أنها شكّلت الأساس الفلسفي لمفهوم الفائدة حتى اليوم.
غير أن ما نشهده الآن – من الفوائد السلبية بشقيها الاسمي والحقيقي، بعد أخذ معدلات التضخم في الحسبان – يؤكد أن البنوك المركزية فقدت وظيفتها الأساسية في تشجيع الادخار وتعزيز الوساطة المالية. بل أصبحت البنوك “تعاقب” المدخرين، بفرض رسوم على ودائعهم، وتشجع المقترضين على الاقتراض دون تكلفة تقريبًا، على أمل إنعاش الاقتصاد الراكد. لكن النتيجة كانت أن توجهت الأموال إلى بورصات المضاربة بدلًا من الإنتاج، ما عمّق الفجوة بين المال والاقتصاد الحقيقي.
كما أن الأموال المدخرة – سواء في حسابات جارية أو ودائع – معرضة لتناقص قيمتها. ففي بعض الحالات، تفرض البنوك رسوماً تقلص الرصيد تدريجيًا، إلى حد أن يصبح العميل مدينًا للمصرف بعد أن كان دائنًا له. أو تتآكل القيمة بفعل التضخم الذي يقلل القوة الشرائية للنقود.
هكذا، انهارت فرضية أن الفائدة تمثل مكافأة على الادخار. فالمستثمر لا يستجيب لانخفاض الفائدة، ما لم تكن هناك فرص ربح حقيقية. والبنوك باتت تخصم من الودائع، بينما تنكمش الثقة العامة في النظام المالي القائم.
في المقابل، ظهرت نماذج بديلة، مثل:
* الدعم المباشر للدخل في الدول الإسكندنافية.
* تخفيض الضرائب في اليابان.
* توسّع بعض الاقتصادات في أدوات التمويل الإسلامي التي تستند إلى الشراكة والمخاطرة وتوزيع الثروة بعدالة.
لكن على الرغم من تميز البنوك الإسلامية من حيث الأساس القيمي، فإنها لا تزال تعاني من تحديات حقيقية، أبرزها:
* الاعتماد المفرط على صيغ المداينات (مثل المرابحة والتورق)، التي تحاكي القروض التقليدية.
* ضعف الاستثمار في أدوات المشاركة والمضاربة.
* غياب وحدات بحث وتطوير قادرة على استخراج التراث الفقهي وتحويله إلى أدوات مالية عملية.
ومع ذلك، فإن هذه التحديات تكشف عن فرص مستقبلية. فإذا جرى تطوير منتجات مالية قائمة على الشراكة، وتفعيل أدوات الوقف والزكاة، وتعزيز التأمين التكافلي، يمكن للنظام المصرفي الإسلامي أن يقدم بديلًا متكاملًا، أكثر عدالة وكفاءة واستدامة.
توجد ثمة توافق وتناسق بين آلية سعر الفائدة السلبية وآلية فريضة الزكاة في الشريعة الإسلامية، حيث يعمل كلاهما على تحقيق مستوى مقبول من الانتعاش الاقتصادي، دون وجود أعباء أو تكاليف على مقدرات التنمية الاقتصادية. وهناك من يرى منظورًا فريدًا يربط بين الفائدة السلبية والزكاة، مما يعزز فكرة أن التمويل الإسلامي يمكن أن يقدم حلولًا بديلة ومستدامة للتحديات الاقتصادية المعاصرة.
نقد الفائدة في الفكر الاقتصادي الغربي: قراءة في كتاب “كارثة الفائدة”
في سياق متصل، في هذا الإطار، يُعد كتاب “كارثة الفائدة” (Die Zins-Katastrophe) للمفكر الألماني فرايهرفون بيتمان إضافة نوعية في نقد النظام الربوي من داخل الفكر الغربي ذاته. يقدم الكتاب رؤية جذرية ترى أن الفائدة ليست مجرد أداة مالية، بل كارثة أخلاقية واقتصادية، تُنتج الفقر والتفاوت، وتغذي المضاربات، وتخلق أزمات مالية متكررة.
يربط بيتمان بين تراكم الفائدة المركبة وبين تركّز الثروة، وتآكل الإنتاج الحقيقي، وتزايد المديونية العامة والخاصة. ويدعو إلى بديل تشاركي خالٍ من الفائدة، يستلهم النماذج الإسلامية في التمويل، مثل المشاركة والمضاربة، ويقوم على عدالة التوزيع وتقاسم المخاطر. ويؤكد أن إلغاء الفائدة ممكن، بل ضروري، لضمان استدامة التنمية واستقرار المجتمعات
ولم يكن فرايهرفون بيتمان فقط هو من نقد أداة سعر الفائدة، بل هناك العديد من العلماء والمتخصصين، على رأسهم جون ماينارد كينز الذي رأى أن الفائدة تُعيق التشغيل الكامل وتمنى زوالها مع الزمن. كما انتقد سيلفيو جيزل الفائدة واعتبرها سببًا لركود الأموال، مقترحًا عملة قابلة للتناقص. أما هنري فورد وتوماس جيفرسون، فقد اعتبرا الفائدة أداة استغلال واحتكار تضر بالاقتصاد والمجتمع. وذهب ديفيد غرايبر وإزرا باوند إلى أن النظام الربوي يخلق عبودية مالية وينحرف بالإنسان عن قيم الإنتاج والعدالة
ويزداد هذا الأمل واقعية حين تنخرط البنوك الإسلامية في تمويل المشروعات التنموية، وتطلق برامج لدعم الشباب والحد من البطالة، وتتكامل مع منظومات اقتصادية واجتماعية تشمل الوقف والخير المنظم والتكافل.
لقد أصبحت الفائدة أداة غير موثوق فيها. تتآكل المدخرات، وتُفرض الرسوم على الإيداعات، ويعزف المستثمرون عن التوسع رغم انخفاض الفائدة. وكل ذلك يقودنا إلى سؤال مركزي:
هل نعيش نهاية زمن الفائدة؟
وإذا كانت الإجابة نعم،
فهل يمكن للنظام المالي الإسلامي، بأخلاقياته وشراكاته، أن يملأ هذا الفراغ ويقود المرحلة المقبلة من التاريخ الاقتصادي؟