الرسوم الجمركية: قصة إنسانية واقتصادية من قلب الأسواق

بقلم/ د. محمد جميل الشبشيري
في عالمنا المترابط، حيث تتشابك مصائر الأمم وتتداخل اقتصاداتها، تبرز السياسات التجارية كقوة مؤثرة تشكل حياة الأفراد ومستقبل الشركات. لطالما كانت الرسوم الجمركية أداة تستخدمها الحكومات لحماية الصناعات المحلية أو تحقيق أهداف سياسية، لكن تأثيرها يتجاوز الأرقام الاقتصادية البحتة ليلامس النسيج الاجتماعي والإنساني. إنها ليست مجرد ضرائب تُفرض على السلع، بل هي قرارات تحمل في طياتها قصصاً عن التحديات التي تواجهها الشركات، والخيارات الصعبة التي يتخذها المستهلكون، والمخاوف التي تساور العمال.
في هذا المقال، سنتعمق في تحليل التأثيرات المتعددة للرسوم الجمركية، مستندين إلى دراسة حديثة تسلط الضوء على تجربة الولايات المتحدة في عهد الرئيس ترامب. سننظر إلى ما وراء الأرقام لنفهم كيف تتفاعل هذه السياسات مع الواقع البشري والاقتصادي، وكيف يمكن أن تؤثر على حياتنا اليومية، من أسعار السلع التي نشتريها إلى فرص العمل التي نعتمد عليها. سنستكشف لماذا لم تكن التأثيرات الأولية لهذه الرسوم بالحدة المتوقعة، وما هي العوامل الخفية التي لعبت دوراً في ذلك، مع التركيز على الجوانب الإنسانية والاقتصادية التي غالباً ما تُغفل في النقاشات الجافة حول التجارة. إنها دعوة للتفكير في الاقتصاد ليس كعلم للأرقام فحسب، بل كمرآة تعكس تطلعات البشر وتحدياتهم.
لماذا خفت وطأة الرسوم الجمركية؟ حكايات من الميدان الاقتصادي
عندما أعلن الرئيس ترامب عن فرض رسوم جمركية جديدة، توقع الكثيرون، بمن فيهم خبراء الاقتصاد، أن تكون الصدمة الاقتصادية كبيرة ومباشرة. لكن الواقع أظهر صورة مختلفة، حيث كانت التأثيرات الأولية أكثر اعتدالاً مما كان متوقعاً. فلماذا لم تكن هذه الرسوم بالحدة التي أشارت إليها التوقعات؟ الإجابة تكمن في عدة عوامل متشابكة، تكشف عن ديناميكيات السوق المعقدة وقدرة الأفراد والشركات على التكيف.
- الأرقام لا تكذب، لكنها قد تخدع: الرسوم الفعلية أقل من المعلنة
لطالما كانت تصريحات الرئيس ترامب حول الرسوم الجمركية مدوية، توحي بفرض أعباء هائلة على الواردات. لكن عند التدقيق في الأرقام الفعلية، نجد أن الرسوم المحصلة كانت أقل بكثير مما توقعه المحللون. فبينما كان من المفترض أن تصل النسبة الفعلية للرسوم إلى حوالي 20% عند احتساب جميع الرسوم المعلنة (بما في ذلك تلك المتعلقة بالفنتانيل، وأمن الحدود، والمعاملة بالمثل التجارية، وقطاع السيارات، والصلب، والألمنيوم، والنحاس، والبرازيل، والهند، والصين، بالإضافة إلى إلغاء إعفاء “القيمة الدنيا” للواردات الصغيرة)، إلا أنها بلغت في يونيو 9.1% فقط . هذا يعني أن الرسوم الفعلية كانت تقريباً نصف المستوى النظري المتوقع، وهو ما يفسر جزئياً لماذا كان تأثيرها أكثر اعتدالاً.
يعود هذا التباين إلى عدة أسباب، أبرزها كثرة الاستثناءات والإعفاءات التي تم تطبيقها. فعلى سبيل المثال، ارتفعت نسبة امتثال البضائع الكندية المصدرة إلى الولايات المتحدة لاتفاقية الولايات المتحدة–المكسيك–كندا (CUSMA) من 33.3% في فبراير إلى 56.9% في يونيو . هذا الامتثال سمح للعديد من السلع الكندية بالدخول إلى السوق الأمريكية دون رسوم. والأكثر إثارة للدهشة هو أن أكثر من 80% من الصادرات الكندية غير المتوافقة مع CUSMA دخلت الولايات المتحدة بدون رسوم جمركية بفضل برامج وتشريعات أمريكية مختلفة، بما في ذلك أوامر تنفيذية صادرة عن ترامب نفسه . هذه الاستثناءات، التي كانت أوسع نطاقاً مما توقعه الكثيرون، خففت بشكل كبير من وطأة الرسوم المعلنة.
- المستوردون الأمريكيون: سباق مع الزمن لتخفيف الأثر
لم يقف المستوردون الأمريكيون مكتوفي الأيدي أمام تهديد الرسوم الجمركية. بل تحركوا بسرعة وبشكل استباقي لتخفيف آثارها المحتملة. تمثل هذا التحرك في الإسراع بتقديم الطلبات واستيراد كميات كبيرة من السلع قبل دخول الرسوم حيز التنفيذ الكامل. وقد أدى ذلك إلى قفزة ملحوظة في الواردات والمخزونات خلال الربع الأول من العام. ورغم أن المخزونات انخفضت قليلاً في الربع الثاني، إلا أنها ظلت أعلى بكثير من مستويات عام 2024 . هذا السلوك الاستباقي من قبل الشركات سمح لها بتأمين إمداداتها وتجنب جزء من التكاليف الإضافية التي كانت ستفرضها الرسوم، مما ساهم في تخفيف الصدمة الأولية على الاقتصاد.
- البيروقراطية الحكومية: عقبة في طريق التنفيذ الكامل
لا يمكن إغفال دور البيروقراطية الحكومية في هذا السياق. فالتعقيد والتغير المستمر في الرسوم الجمركية المعلنة من قبل البيت الأبيض جعل من الصعب على المسؤولين في الحدود تطبيقها بشكل فعال وسريع. يبدو أن هناك تأخيراً في تنفيذ هذه الرسوم، وأن المسؤولين ليسوا متأكدين تماماً من كيفية تطبيقها نظراً للتغييرات المتكررة. هذا التأخير في التنفيذ يعني أن الرسوم المحصلة فعلياً قد تستغرق وقتاً أطول لتصل إلى المستويات المتوقعة، مما يمنح الشركات والمستهلكين مزيداً من الوقت للتكيف .
- التكيف السلوكي: مرونة الاقتصاد البشري
أظهر الاقتصاد العالمي، وخاصة الاقتصاد الأمريكي، مرونة أكبر مما كان متوقعاً في مواجهة موجة الحمائية التجارية المتجددة. هذه المرونة لا تقتصر على الأرقام الاقتصادية، بل تعكس قدرة الأفراد والشركات على التكيف وتغيير سلوكياتهم. فالمستوردون بحثوا عن بدائل، والشركات أعادت ترتيب سلاسل إمدادها، والمستهلكون بدأوا في التفكير في خيارات مختلفة. هذه التفاعلات البشرية، التي غالباً ما تكون غير مرئية في التحليلات الاقتصادية الكلية، تلعب دوراً حاسماً في تحديد مدى تأثير السياسات الاقتصادية على أرض الواقع. ولكن، هل يعني هذا أننا تجاوزنا الخطر؟ وماذا عن الآثار طويلة الأمد التي قد لا تظهر إلا بعد حين؟ في الجزء الثاني من هذا المقال، سنتعمق في تحليل الأثر المؤجل للرسوم الجمركية، وكيف يمكن أن يؤثر التضخم وعدم اليقين على حياتنا اليومية في المستقبل القريب.