الدولار ملاذ آمن للمستثمرين منذ 50 عامًا…هل انتهى العصر الذهبي للعملة الخضراء؟

بقلم – ليما راشد الملا
على مدار الخمسين عامًا الماضية، بقي الدولار الأميركي يُنظر إليه بوصفه الركيزة الأهم للنظام المالي العالمي، والملاذ الآمن الأول للمستثمرين في أوقات الاضطراب. إلا أن التطورات الحالية تحمل تغييرات جذرية تهدد استمرارية هذا الدور التقليدي. فبعدما كان الدولار عملة الاحتياط المفضلة لدى البنوك المركزية ورمزًا للثقة في الاقتصاد الأميركي، بدأت مؤشرات فقدان الثقة تظهر بقوة، لتفتح الباب أمام تساؤلات كبرى حول مستقبل العملة الخضراء.
الدولار يتراجع من عرش الملاذ الآمن
وفقًا لبنك أوف أميركا، نحو 38% من المستثمرين باتوا يخططون لزيادة تحوطهم ضد ضعف الدولار. هذا التحول لافت لأن الدولار نفسه كان يُستخدم تقليديًا كأداة للتحوط. وفي خطوة غير مسبوقة منذ 29 عامًا، تجاوزت احتياطيات البنوك المركزية من الذهب حجم احتياطياتها من الدولار، وهو تطور يؤكد تبدل موازين الثقة العالمية.
الأداء الأسوأ منذ عقدين
منذ بداية عام 2025، خسر مؤشر الدولار أكثر من 10%، وهي أكبر خسارة له منذ 22 عامًا، ليتصدر قائمة أسوأ العملات أداءً هذا العام. هذا الانخفاض لا يُعَد حركة عابرة، بل ثمرة تراكم عوامل اقتصادية وسياسية قلّصت جاذبية العملة بشكل ملحوظ.
لكن ما هي أسباب التراجع :
عدة أسباب تقف خلف هذا التراجع التاريخي أبرزها مايلي :
1- استخدام الدولار كسلاح للعقوبات: تزايد استخدام الولايات المتحدة عملتها في فرض عقوبات اقتصادية عزز المخاوف من الاعتماد المفرط على الدولار في التجارة والتمويل.
2- ضعف الاقتصاد الأميركي: تباطؤ النمو وارتفاع معدلات البطالة والتضخم أضعف ثقة المستثمرين في متانة الاقتصاد.
3- ارتفاع الديون: الدين العام الأميركي تجاوز مستويات غير مسبوقة، ليفتح باب الشكوك حول قدرة واشنطن على الوفاء بديونها.
4- السياسات الاقتصادية المثيرة للجدل: السياسات التي اتبعها الرئيس دونالد ترامب وأدت إلى تراكم انقسامات وتقلبات اقتصادية لا تزال آثارها واضحة في الأسواق.
الذهب والأسهم كبدائل
في ظل هذا التراجع، صعد الذهب من جديد إلى واجهة المشهد، مستعيدًا دوره كملاذ تقليدي يحمي الثروة في أوقات الشكوك. وبالتوازي، يلجأ العديد من المستثمرين إلى الأسهم كوسيلة للتحوط، على الرغم مما تحمله من تقلبات، معتبرين أن عوائدها المحتملة أكثر جاذبية مقارنة بدولار يفقد بريقه.
الجذور التاريخية للدور الأميركي
منذ اتفاقية بريتون وودز في منتصف القرن العشرين، أصبح الدولار المحور الرئيس للتجارة العالمية والاحتياطيات النقدية. هذا الدور تعزز بعد فك ارتباطه بالذهب في سبعينيات القرن الماضي، حيث واصلت واشنطن توظيف قوة اقتصادها وأسواقها المالية لترسيخ مكانة الدولار عالميًا. لكن التحولات الأخيرة تشير إلى أن تلك الحقبة قد تكون في طريقها إلى الانتهاء.
تداعيات عالمية
تراجع مكانة الدولار لا يقتصر أثره على الولايات المتحدة وحدها، بل يمتد إلى الاقتصادات الناشئة التي تعتمد بشكل كبير على التمويل بالدولار. أي ضعف مستمر في العملة قد يوفر متنفسًا فيما يتعلق بالالتزامات المالية بالدولار لهذه الدول، لكنه في المقابل قد يؤدي إلى اضطرابات في حركة التجارة والتدفقات الاستثمارية، الأمر الذي قد يؤدي إلى تقلبات واسعة في الأسواق العالمية.
هل فقد الدولار مكانته إلى الأبد؟
رغم الصورة القاتمة، لا يمكن إنكار أن الدولار ما زال يتمتع بميزات يصعب منافستها، مثل عمق أسواق المال الأميركية، وسيولة غير متوافرة في أي عملة أخرى، فضلًا عن البنية المؤسسية القوية التي تحكمه. لكن، استمرار التراجعات الحالية قد يدفع باتجاه توسيع دائرة البحث حول نظام مالي أكثر تنوعًا، تُمنح فيه العملات الإقليمية والذهب دورًا أكبر.
سيناريوهات المستقبل
التطورات القادمة تطرح عدة احتمالات: استمرار هيمنة الدولار مع بعض التراجع النسبي، أو صعود اليورو واليوان الصيني كبدائل أكثر حضورً أو عودة قوية للذهب كركيزة احتياطية أولى. أما الاحتمال الأكثر واقعية، فهو تشكيل نظام نقدي عالمي أكثر تعددية تتقاسم فيه عدة عملات أعباء قيادة الاقتصاد العالمي، الأمر الذي من شأنه تقليص النفوذ المطلق للعملة الأميركية.
دروس للمستثمرين
ما يحدث اليوم مع الدولار يفرض على المستثمرين إعادة النظر في استراتيجياتهم. لم يعد كافيًا الاعتماد على الدولار وحده كضمان للأمان المالي، بل أصبح التنويع ضرورة ملحّة. الذهب، الأسهم، وربما حتى العملات الرقمية، كلها أدوات ينبغي أن تكون جزءًا من المحافظ الاستثمارية في المرحلة المقبلة.
في النهاية، يمكن القول إننا أمام منعطف تاريخي. الدولار الذي بقي لعقود “ملك الملاذات الآمنة” يواجه اليوم اختبارًا عسيرًا. المستقبل قد يحمل عودة قوية إذا ما عالجت الولايات المتحدة مكامن ضعفها الاقتصادي والسياسي، لكنه قد يقود أيضًا إلى ظهور نظام عالمي جديد لا يتربع فيه الدولار على العرش منفردًا.