مقالات

الصين تعيد تعريف قواعد اللعبة في عصر العملات الرقمية: هل يهدد اليوان الرقمي هيمنة الدولار على التجارة الدولية؟

• الصين تطور جسرًا للعملة الرقمية يقلص سرعة التسوية إلى 7 ثوانٍ فقط وشبكة مدفوعات رقمية تغطي 200 دولة.
• انضمام 23 بنكًا مركزيًا حول العالم إلى اختبارات جسر العملة الرقمية.
• الرسالة الصينية واضحة: “مَن يسيطر على النظام النقدي، يسيطر على الاقتصاد العالمي”
• 87% من دول العالم تُكيف أنظمتها مع اليوان الرقمي، وقيمة المدفوعات عبر الحدود تجاوزت 1.2 تريليون دولار أمريكي.
• الثورة المالية الصامتة لا تتعلق فقط بالسيادة النقدية، بل تحدد أيضًا من سيسيطر على شريان الاقتصاد العالمي في المستقبل.
• 38% من حجم التجارة العالمية سيتجاوز نظام SWIFT الذي يهيمن عليه الدولار الأمريكي وسيدخل مباشرة إلى “لحظة اليوان الرقمي”.
• حجم التسويات عبر الحدود باليوان في دول الآسيان تجاوز 5.8 تريليون يوان في 2024، بزيادة قدرها 120% مقارنة بعام 2021.
• الإمارات تطرح عملتها الرقمية كـجسر بين النظامين (الدولار واليوان).

الحدث الاستراتيجي الكبير في مواجهة الدولار: اليوان الرقمي يربط آسيان والشرق الأوسط والإمارات تُسرع بإصدار “الدرهم الرقمي”

يشهد العالم اليوم تغيرات جذرية في النظام المالي العالمي، تقودها الصين عبر إطلاق عملتها الرقمية السيادية، اليوان الرقمي. في 17 مارس 2025، أعلن بنك الشعب الصيني (PBOC) عن قرار مفاجئ بربط نظام التسوية العابرة للحدود لليوان الرقمي (e-CNY) بالكامل مع دول آسيان العشر وست دول في الشرق الأوسط، مما يعني أن 38% من حجم التجارة العالمية سيتجاوز نظام SWIFT الذي يهيمن عليه الدولار الأمريكي وسيدخل مباشرة إلى “لحظة اليوان الرقمي”. يعتبر هذا الإعلان هو ذروة تصعيد صيني ردًا على الحرب التجارية التي أشعلها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 6 يوليو 2018، عندما فرض الرسوم الجمركية الأولى على واردات صينية بقيمة 34 مليار دولار. وفي توقيت ذي دلالة، أعلن المصرف المركزي الإماراتي الأسبوع الماضي عن تقدم كبير في إصدار “الدرهم الرقمي”، كجزء من برنامج التحول المالي الذي أطلقته عام 2023. هذان الإعلانان المتزامنان ليسا صدفة، بل هما جزء من تحول جيوسياسي ومالي ضخم تُرسل رسالة بأنها تريد أن تكون مركزًا مالياً رائدًا في النظام الجديد، يُعيد رسم خريطة النظام المالي العالمي. ودبي تريد أن تكون عاصمة المال الرقمي، والدرهم الرقمي سيجذب شركات التكنولوجيا المالية (FinTech) لتأسيس مقارها هناك. هذا يتوافق مع استراتيجية “اقتصاد ما بعد النفط” التي تتبناها الإمارات منذ 2020. لا تريد الإمارات قطع علاقاتها مع واشنطن، لذا تطرح عملتها الرقمية كـجسر بين النظامين (الدولار واليوان). فما هي الأبعاد الاستراتيجية لهذا الحدث؟

أداة لتغيير النظام المالي العالمي وتأثيره على الوظائف والأسواق

تعتبر هذه الخطوة استجابة استراتيجية للهيمنة المستمرة للدولار الأمريكي، لكنها تفتح أيضًا أبوابًا لتحولات عميقة في التجارة الدولية، العلاقات الاقتصادية، وحتى ديناميكيات الوظائف وسوق العمل. هذا الإعلان يمثل أول تحرك ملموس لبناء نظام مالي عالمي متعدد الأقطاب بقيادة صينية. فمن ناحية الجانب الاقتصادي: تسريع التخلي عن الدولار في مناطق حيوية. ومن الجانب السياسي: تحويل العملة إلى أداة نفوذ جيوسياسي (مثلما كان الدولار منذ 1945). الرسالة الصينية واضحة: “مَن يسيطر على النظام النقدي، يسيطر على الاقتصاد العالمي”… وهذه المرة، الصين لا تطلب الإذن من واشنطن. ومن الجانب التكنولوجي: الصين تفرض معاييرها الرقمية على نصف العالم تقريبًا. إذا نجحت الصين في إدارة هذا التحول، فقد نرى نظامًا نقديًا جديدًا بحلول 2030 تكون فيه e-CNY عملة التداول المهيمنة من جاكارتا إلى دبي… وهذا يُعيد تشكيل خريطة القوى العالمية. وبينما تتصدر حرب الرسوم الجمركية التي أعاد إطلاقها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عناوين الأخبار الاقتصادية، يشير ذلك إلى بداية مرحلة جديدة من التنافس النقدي العالمي الذي قد يعيد تشكيل مستقبل الاقتصاد العالمي. وعلي حسب ما قالت ووصفت مجلة “الإيكونوميست” هذه المواجهة المالية بأنها “معركة بريتون وودز 2.0 القادمة”، حيث تعمل الصين على إعادة كتابة الشيفرة الأساسية للاقتصاد العالمي باستخدام تقنية البلوك تشين. بينما لا يزال نظام SWIFT يعاني من تأخير يتراوح بين 3 إلى 5 أيام في المدفوعات العابرة للحدود، فقد طورت الصين جسرًا للعملة الرقمية قام بتقليص سرعة التسوية إلى 7 ثوانٍ فقط. في أول اختبار بين هونغ كونغ وأبوظبي، قامت إحدى الشركات بدفع مستحقات مورد في الشرق الأوسط عبر اليوان الرقمي. لم تعد الأموال تمر عبر ستة بنوك وسيطة، بل تم استلامها في الوقت الفعلي من خلال دفتر حسابات موزع، وانخفضت رسوم المعاملات بنسبة 98%. هذه القدرة على “الدفع الفوري” جعلت نظام التسوية التقليدي القائم على الدولار يبدو بطيئًا وغير فعال. في مشروع “بلدان وحديقتان” بين الصين وإندونيسيا، استخدم بنك “إندستريال بنك” اليوان الرقمي لإتمام أول دفعة عبر الحدود، حيث استغرقت العملية من تأكيد الطلب إلى وصول الأموال 8 ثوانٍ فقط، وهو أسرع بمئة مرة من الطرق التقليدية. هذا التفوق التكنولوجي دفع 23 بنكًا مركزيًا حول العالم للانضمام إلى اختبارات جسر العملة الرقمية، حيث تمكن تجار الطاقة في الشرق الأوسط من خفض تكاليف التسوية بنسبة 75%. وتشير البيانات إلى أن حجم التسويات عبر الحدود باليوان في دول الآسيان تجاوز 5.8 تريليون يوان في عام 2024، بزيادة قدرها 120% مقارنة بعام 2021. كما أدرجت ست دول، بما في ذلك ماليزيا وسنغافورة، اليوان ضمن احتياطياتها من النقد الأجنبي، وأتمت تايلاند أول صفقة نفط باستخدام اليوان الرقمي. هذه الموجة من “إلغاء هيمنة الدولار” دفعت بنك التسويات الدولية إلى التصريح: “الصين تعيد تعريف قواعد اللعبة في عصر العملات الرقمية.” اليوم، أكملت 87% من دول العالم تكييف أنظمتها مع اليوان الرقمي، وتجاوزت قيمة المدفوعات عبر الحدود به 1.2 تريليون دولار أمريكي.

اليوان الرقمي: رمز للتحول الاستراتيجي وتأثير

تسعى الصين من خلال اليوان الرقمي إلى تعزيز سيادتها الاقتصادية وتقليل اعتمادها على الدولار في التجارة الدولية. هذه العملة الرقمية ليست مجرد وسيلة دفع؛ بل هي جزء من استراتيجية طويلة الأجل لتوسيع نفوذ الصين الاقتصادي والجيوسياسي. بفضل قدرتها على تقديم معاملات سريعة وشفافة، تمثل العملة الرقمية نموذجًا جديدًا في السيطرة على الدورة المالية العالمية، مما يعزز موقعها في مواجهة الدولار. فبينما لا تزال الولايات المتحدة تناقش ما إذا كانت العملات الرقمية تشكل تهديدًا لمكانة الدولار، قامت الصين بهدوء ببناء شبكة مدفوعات رقمية تغطي 200 دولة. هذه الثورة المالية الصامتة لا تتعلق فقط بالسيادة النقدية، بل تحدد أيضًا من سيسيطر على شريان الاقتصاد العالمي في المستقبل.

تأثير على التجارة العالمية: دول الخليج وأوروبا في المعادلة

دول مجلس التعاون الخليجي، التي تُعتبر مركزًا اقتصاديًا عالميًا للطاقة، ودول الاتحاد الأوروبي، التي تواجه ضغوطًا من السياسة التجارية الأمريكية، تجد نفسها عند مفترق طرق أمام اليوان الرقمي.

أثر على دول مجلس التعاون الخليجي

الاستقلالية الاقتصادية: اعتماد اليوان الرقمي في صفقات النفط والغاز يمكن أن يقلل من هيمنة الدولار، مما يعزز استقلالية اقتصادات الخليج.
تعزيز التجارة مع الصين: اليوان الرقمي يسهل الصفقات التجارية بين الخليج والصين، مما يفتح المجال لتوسيع الشراكات.
التحفيز التكنولوجي: تطبيق تقنيات متقدمة مثل العملات الرقمية قد يشجع على تبني بنية تحتية رقمية متطورة.

انعكاسات على الاتحاد الأوروبي

تنويع العملات: اعتماد اليوان الرقمي يقدم فرصة للدول الأوروبية لتقليل اعتمادها على الدولار وسط النزاعات التجارية مع الولايات المتحدة.
توسع التجارة الصينية الأوروبية: سرعة وشفافية اليوان الرقمي تعزز الكفاءة في التجارة الثنائية.
مخاوف تنظيمية: الحاجة إلى تغيير التشريعات المالية للتكيف مع العملة الرقمية الصينية.

الوظائف وسوق العمل: هل نحن أمام تحول جذري؟

إلى جانب إعادة تشكيل أنماط التجارة، يُتوقع أن يترك اليوان الرقمي أثرًا على ديناميكيات التوظيف العالمي:

  1. خلق وظائف جديدة: مع توسع البنية التحتية للعملات الرقمية، ستظهر فرص عمل في مجالات مثل تطوير أنظمة الدفع الرقمية، الأمن السيبراني، وتحليل البيانات.
  2. تحدي الوظائف التقليدية: العملات الرقمية تُقلل من الحاجة إلى التعاملات المصرفية التقليدية، مما قد يؤدي إلى خفض الطلب على الوظائف المرتبطة بأنظمة البنوك التقليدية.
  3. تغيير المهارات المطلوبة: يتطلب الانتقال إلى اقتصاد رقمي عمالة تتمتع بمهارات في التكنولوجيا، التحليل الرقمي، والبرمجة.

. الحرب التجارية الأمريكية (2018–2021): الشرارة التي أشعلت تحول الصين

  • :2018–2019 فرض ترامب أربع موجات من الرسوم على 500 مليار دولار من البضائع الصينية، واتهم الصين بسرقة الملكية الفكرية (قانون “إجراءات التجارة” في أغسطس 2018).
  • : 2020 الصين ترد بفرض رسوم انتقائية على الصويا الأمريكية والغاز المسال، وتُسرع مشروع اليوان الرقمي (بدأت تجاربه في أبريل 2020).
  • يناير 2021: واشنطن تمنع هواوي من الوصول إلى تقنيات أشباه الموصلات (عقوبات TSMC)، مما دفع بكين إلى تسريع الاكتفاء الذاتي التكنولوجي.

حرب الرسوم الجمركية: عامل مؤثر في الديناميكيات النقدية

منذ فرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رسومًا جمركية جديدة في مارس 2025، تواجه التجارة الدولية تحديات إضافية. هذه السياسات، التي تهدف إلى تقليل العجز التجاري الأمريكي، تضع شركاء تجاريين مثل دول الخليج والاتحاد الأوروبي تحت ضغط اقتصادي كبير. في ظل هذه الظروف، يمكن أن يصبح اليوان الرقمي خيارًا جذابًا لتجنب هذه العقبات.

الخلاصة:

النظام المالي العالمي في طور إعادة التشكيل ومعركة العملات الرقمية قد بدأت.. ومن سيفوز؟
17 مارس 2025، قد يُذكر في المستقبل كـ”يوم بداية نهاية هيمنة الدولار”، حيث الصين تُوسع نظامها المالي الرقمي ليشمل أكبر اقتصادات آسيا والشرق الأوسط. والإمارات تثبت أنها لاعب مستقل بطرح “الدرهم الرقمي”، وتُرسي نفسها كـسويسرا العصر الرقمي. وأمريكا تواجه تحديًا وجوديًا: إما أن تُسرع تحولها الرقمي، أو تفقد السيطرة على النظام المالي العالمي. وفي ظل حرب الرسوم الجمركية وتطور العملات الرقمية، يبدو أننا نقترب من عصر جديد للنظام المالي العالمي، حيث تتنافس القوى الاقتصادية الكبرى على القيادة والسيطرة. بالنسبة لدول الخليج وأوروبا، اعتماد اليوان الرقمي قد يكون فرصة لتعزيز استقلالية اقتصاداتها ودعم الابتكار. ومع ذلك، يبقى السؤال: كيف سيتكيف العالم مع ديناميكيات القوة الجديدة، وكيف ستعيد هذه التحولات تشكيل الوظائف والأسواق؟

د. عدنان البدر.
باحث ومستشار استراتيجي في سياسة الموارد بشرية وبيئة العمل ورئيس ومؤسس الجمعية الكندية الكويتية للصداقة والأعمال.
ckbafa@gmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى