مقالات

الإرث الرقمي بين الثروة والتشريع: قوانين غائبة وثروات رقمية مهدرة

  • لم تتناول اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR) موضوع البيانات بعد الوفاة بشكل صريح، وتركت للدول الأعضاء حرية وضع قوانينها لتحديد من يرثها؟

  • “البصمة الرقمية” للفرد جزء لا يتجزأ من هويته وثروته.

  • مع تزايد الاعتماد على الفضاء الرقمي، أصبحت هذه البصمة تحمل قيمة مالية حقيقية، وثروة يصعب تجاهلها بعد الوفاة.

  • الشركات الرقمية الكبرى قد تواصل استخدام بيانات الشخص المتوفى مما يشكّل مصدر دخل دائم لها.

  • تفتقر معظم الدول العربية لتشريع مباشر في هذا المجال، مما يفتح الباب أمام تفسيرات قضائية واجتهادات غير موحدة.

  • من الضروري أن تُبادر الحكومات العربية، ومنها الكويت ودول الخليج، إلى تطوير تشريعات رقمية واضحة تنظم الإرث الرقمي.

  • إن البقاء الرقمي ليس مجرد وجود إلكتروني بعد الوفاة، بل هو تركة اقتصادية وقانونية وأخلاقية ينبغي التعامل معها بجدية.

  • حقوق الورثة معلّقة في انتظار قانون يعترف بـ “الوجود الرقمي بعد الموت” كجزء من الحقيقة الاقتصادية والاجتماعية المعاصرة.

  • طنًا واحدًا من المخلفات الإلكترونية يحتوي على ذهب يفوق ما يمكن استخراجه من 20 طنًا من الصخور الطبيعية.

  • يولّد العالم أكثر من 50 مليون طن من النفايات الإلكترونية سنويًا، بقيمة سوقية تتجاوز 60 مليار دولار.

  • ألمانيا من الدول الرائدة في هذا المجال نظرًا لصرامة قوانين البيئة وإلزام الشركات والمواطنين بتدوير النفايات الإلكترونية.

  • تم استخدام مخلفات إلكترونية لصناعة ميداليات أولمبياد طوكيو 2020 في مشروع وطني رمزي وذو جدوى اقتصادية

البصمة الرقمية وتأثيرها الاقتصادي والتشريعي

 

في عالم يتسارع فيه التحوّل الرقمي، حيث تُبنى العلاقات وتُحفظ الذكريات وتُدار الأعمال من خلال الإنترنت، أصبحت “البصمة الرقمية” للفرد جزءًا لا يتجزأ من هويته وثروته. ومع مرور الوقت، تتضخم هذه البصمة لتشمل أصولًا رقمية قيّمة مثل الحسابات البنكية الإلكترونية، العملات الرقمية، الاشتراكات الرقمية، البيانات الصحية، الصور والمحادثات على منصات التواصل الاجتماعي. لكن يبقى السؤال الكبير: من يملك هذه البصمة بعد الوفاة؟ وهل توجد تشريعات تحمي هذا الإرث؟

أولاً: ما هي البصمة الرقمية؟

البصمة الرقمية هي كل ما يتركه الإنسان من بيانات ومعلومات ومحتوى عبر الإنترنت، وتشمل:

– الحسابات البنكية الرقمية والمحافظ الإلكترونية.

– الأصول المشفرة (Cryptocurrencies) مثل البيتكوين.

– الحسابات على وسائل التواصل الاجتماعي.

– المكتبات الرقمية والمحتوى المدفوع.

– البريد الإلكتروني والمحادثات والمستندات السحابية.

– بيانات المواقع الصحية والاشتراكات في التطبيقات.

ومع تزايد الاعتماد على الفضاء الرقمي، أصبحت هذه البصمة تحمل قيمة مالية حقيقية، وقد تكون جزءًا من ثروة الفرد، ويصعب تجاهلها بعد الوفاة.

ثانيًا: الأثر الاقتصادي للبقاء الرقمي

يتجاوز الأثر الاقتصادي مجرد وجود أصول رقمية، ليشمل عدة أبعاد:

  1. الأصول الرقمية كجزء من الثروة:

– المحافظ الرقمية تحتوي على عملات مشفرة قد تساوي آلاف أو ملايين الدولارات.

– حسابات التخزين السحابية قد تضم عقودًا أو ملفات مهمة تجاريًا.

– حسابات الاشتراك مثل Netflix وSpotify وiCloud تدفع بمبالغ سنوية مستمرة.

  1. البيانات كمصدر للدخل:

– البيانات الشخصية تُستخدم لتوجيه الإعلانات وتُباع لتحليل سلوك المستهلكين.

– الشركات الرقمية الكبرى قد تواصل استخدام بيانات الشخص المتوفى مما يشكّل مصدر دخل دائم لها.

  1. الخسائر المحتملة:

– عدم وجود إدارة للإرث الرقمي يؤدي إلى فقدان الأصول.

– إمكانية استغلال الحسابات من قبل قراصنة أو أطراف غير شرعية.

ثالثًا: المواقف التشريعية الدولية

رغم أن معظم الدول لم تصل بعد إلى إطار قانوني شامل، إلا أن بعض المبادرات بدأت تظهر حول العالم.

في الاتحاد الأوروبي:

– اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR) لم تتناول موضوع البيانات بعد الوفاة بشكل صريح، وتركت للدول الأعضاء حرية وضع قوانينها.

فرنسا:

– أقرت قانونًا عام 2016 يسمح للفرد بتحديد مصير بياناته الرقمية بعد الوفاة من خلال وصية رقمية.

ألمانيا:

– قضت محكمة عليا بأن الإرث يشمل الحسابات الرقمية، تمامًا كالممتلكات المادية.

في الولايات المتحدة:

– تم سن قانون Fiduciary Access to Digital Assets Act في عدد من الولايات، ويتيح للورثة أو منفذ الوصية القانونية الوصول إلى الأصول الرقمية بشرط ذكرها في وصية واضحة.

كندا وأستراليا:

– النقاشات قائمة، مع بعض المبادرات المحلية، لكن لا يوجد تشريع وطني شامل.

في الدول العربية:

– تفتقر معظم الدول العربية لتشريع مباشر في هذا المجال، مما يفتح الباب أمام تفسيرات قضائية واجتهادات غير موحدة.

رابعًا: من يملك إرثك الرقمي؟

سؤال معقد تتداخل فيه الجوانب القانونية والتقنية والأخلاقية:

– من الناحية القانونية: إن لم يُذكر في الوصية، قد تُرفض مطالب الورثة بالوصول إلى الحسابات.

– من الناحية التقنية: بعض الشركات لا تمنح حق الوصول لأي طرف بعد وفاة المستخدم.

– من الناحية الأخلاقية: يطرح تساؤلات حول خصوصية المتوفى وحق العائلة في الولوج إلى الذكريات.

خامسًا: توصيات عملية لكل فرد

  1. صياغة وصية رقمية:

– تحديد من يحق له الوصول إلى حساباتك.

– ذكر التفاصيل الدقيقة (كلمات السر، مفاتيح التشفير، بيانات الدخول).

  1. استخدام أدوات الشركات الرقمية:

– “Google Inactive Account Manager” و”Facebook Legacy Contact”.

  1. توثيق الأصول الرقمية:

– الاحتفاظ بسجل مكتوب أو مشفر للأصول وأماكنها.

  1. استشارة قانونية متخصصة:

– خاصة في الدول التي لا تملك تشريعات رقمية واضحة.

  1. التوعية الأسرية:

– مشاركة المعلومات مع أفراد موثوقين لضمان سلامة الوصول وعدم فقدان الإرث.

سادسًا: القيمة الاقتصادية للمخلفات الرقمية

إلى جانب الإرث الرقمي المرتبط بالحسابات والبيانات، هناك نوع آخر من الأصول يُهمل كثيرًا رغم قيمته الاقتصادية المتزايدة: المخلفات الرقمية مثل الهواتف المحمولة وأجهزة الحاسوب والألواح الذكية القديمة. تحتوي هذه الأجهزة على معادن ثمينة وعناصر نادرة تدخل في صناعتها، مثل:

– الذهب: يُستخدم في الموصلات الدقيقة داخل الهواتف.

– الفضة والنحاس: تدخل في الدارات الكهربائية.

-الليثيوم والكوبالت: في بطاريات الهواتف والحواسيب.

الألمنيوم والحديد والبلاستيك عالي الجودة: في الهياكل والأجزاء الخارجية.

تشير الإحصاءات الدولية إلى أن طنًا واحدًا من المخلفات الإلكترونية يحتوي على ذهب يفوق ما يمكن استخراجه من 20 طنًا من الصخور الطبيعية. وبحسب تقارير الأمم المتحدة، فإن العالم يولّد أكثر من 50 مليون طن من النفايات الإلكترونية سنويًا، بقيمة سوقية تتجاوز 60 مليار دولار.

لكن للأسف، في كثير من الدول العربية لا تزال هذه المخلفات تُهدر دون تدوير أو استثمار، مما يشكّل خسارة اقتصادية وبيئية مزدوجة. لذا، يُعد إدماج إدارة المخلفات الرقمية ضمن السياسات الاقتصادية الوطنية والتشريعات البيئية أمرًا ملحًا لتحقيق:

عوائد اقتصادية من إعادة التدوير.

-حماية بيئية من التسربات السامة.

– خلق فرص عمل في مجال التدوير والتكنولوجيا البيئية.

 

 

تُعد الصين من أبرز الدول في العالم التي تتصدر مشهد إعادة تدوير الأجهزة الإلكترونية القديمة، بما في ذلك هواتف آيفون، حيث تضم مقاطعة قوانغدونغ مراكز صناعية متخصصة في تفكيك الأجهزة واستخلاص المعادن الثمينة منها كالذهب والفضة والنحاس. كما تحتل الهند مرتبة متقدمة في هذا المجال، خاصة بعد إقرارها لقوانين تنظيمية تشجع على إنشاء مصانع إعادة التدوير المحلية مما سمح لها بتحقيق عوائد اقتصادية واستيعاب قوة عمل كبيرة في هذا القطاع. في أوروبا، تعتبر ألمانيا من الدول الرائدة في هذا المجال نظرًا لصرامة قوانين البيئة وإلزام الشركات والمواطنين بتدوير النفايات الإلكترونية، إلى جانب هولندا والسويد التي توفر بنى تحتية متقدمة ومراكز فرز وتفكيك إلكتروني عالية الكفاءة. أما في أمريكا الشمالية، فتبرز كندا والولايات المتحدة من خلال برامج حكومية وخاصة تستهدف إعادة تدوير الهواتف الذكية والأجهزة المحمولة، مع وجود تحفيزات مالية للأفراد الذين يشاركون في برامج استعادة الأجهزة. وفي آسيا، تسير اليابان بخطى متقدمة في هذا القطاع، حيث تُوظف التكنولوجيا المتقدمة لاستخلاص المعادن النادرة بكفاءة عالية، وتدمج هذه العملية ضمن سياساتها الاقتصادية لتحقيق الاكتفاء الذاتي من المواد الأولية. تجدر الإشارة إلى أن هذه الدول لا تعيد تدوير الأجهزة بدافع بيئي فقط، بل لأنها تدرك القيمة الاقتصادية العالية لهذه المخلفات التي تحتوي على معادن ثمينة تدخل في صناعات دقيقة مثل الإلكترونيات والبطاريات والطاقة المتجددة، مما يحول إعادة التدوير من عبء بيئي إلى فرصة اقتصادية ذات عائد استراتيجي.

تُقدّر القيمة الاقتصادية السنوية التي تجنيها الدول المتقدمة من عمليات إعادة تدوير الأجهزة الإلكترونية المستهلكة، مثل هواتف آيفون والحواسيب القديمة، بأكثر من 20 مليار دولار أمريكي سنويًا. على سبيل المثال، الصين وحدها تحقق عائدات تصل إلى نحو 10 مليارات دولار سنويًا من قطاع إعادة التدوير الإلكتروني، خاصة في مقاطعات مثل قوانغدونغ التي تُعد مركزًا عالميًا لتفكيك وتجديد الأجهزة. أما الولايات المتحدة، فتتجاوز عوائدها من تدوير النفايات الإلكترونية 5 مليارات دولار سنويًا، من خلال برامج حكومية وشركات خاصة تستثمر في جمع وفصل المواد الثمينة. اليابان، من جانبها، تحقق أرباحًا تُقدّر بمليارات الدولارات عبر تقنيات دقيقة لاستخلاص معادن نادرة من الهواتف المحمولة، وقد استخدمت مخلفات إلكترونية لصناعة ميداليات أولمبياد طوكيو 2020 في مشروع وطني رمزي وذو جدوى اقتصادية. الدول الأوروبية مثل ألمانيا وهولندا تحقق أيضًا أرباحًا تصل إلى ملياري دولار سنويًا، بفضل أنظمة بيئية وتشريعية متقدمة تعزز من فعالية جمع النفايات الإلكترونية وإعادة تدويرها. تعكس هذه الأرقام كيف تحوّلت المخلفات الرقمية من عبء بيئي إلى فرصة اقتصادية استراتيجية للدول التي استثمرت في البنية التحتية والتقنية والتنظيم القانوني لهذا القطاع.

سادسًا: دعوة للتشريع المحلي

مع تزايد أهمية الأصول الرقمية وارتباطها بالحياة اليومية والثروة، بات من الضروري أن تُبادر الحكومات العربية، ومنها الكويت ودول الخليج، إلى تطوير تشريعات رقمية واضحة تنظم الإرث الرقمي. على هذه التشريعات أن:

– تعترف قانونيًا بالبصمة الرقمية كجزء من التركة.

– توضح آليات التعامل مع الشركات التكنولوجية الأجنبية.

– تضمن حماية البيانات واحترام خصوصية المتوفى وحقوق الورثة.

خاتمة

إن البقاء الرقمي ليس مجرد وجود إلكتروني بعد الوفاة، بل هو تركة اقتصادية وقانونية وأخلاقية ينبغي التعامل معها بجدية. ومع اتساع الفجوة بين التطور التكنولوجي والتشريعات، يبقى الوعي الفردي، والتخطيط المسبق، والمطالبة بتحديث القوانين، عناصر أساسية لحماية ما نتركه خلفنا في هذا العالم الرقمي الذي لا ينسى..  فبينما تبقى البيانات حية على الخوادم، تظل حقوق الورثة معلّقة في انتظار قانون يعترف بـ “الوجود الرقمي بعد الموت” كجزء من الحقيقة الاقتصادية والاجتماعية المعاصرة.

د. عدنان البدر.

باحث ومستشار استراتيجي في سياسة الموارد بشرية وبيئة العمل ورئيس

ومؤسس الجمعية الكندية الكويتية للصداقة والأعمال.

ckbafa@gmail.com

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى