من الإنسانية المهدرة إلى رأس المال البشري: رحلة اللطف في عالم الأعمال

الطيبة تبدأ من احترام كرامة الإنسان، وهذا يشمل توفير بيئة عمل صحية ونظيفة وآمنة ومريحة.
الطيبة في بيئة العمل استراتيجية تعزز الانتماء، وتقلّل الاحتراق الوظيفي، وترفع جودة الأعمال.
في مجتمعنا الكويتي، يمكن تحويل الروح المجتمعية إلى رأس مال اجتماعي داخل المؤسسات نفسها.
إدماج مفهوم الطيبة في سياسات الموارد البشرية، بحيث يشعر الموظف أنه يُعامَل كإنسان قبل أن يُقاس كرقم.
القائد الجيد يجب أن يمتلك ذكاءً عاطفياً عالياً، ومهارات في التواصل الفعال.
من أوضح تطبيقات الطيبة المؤسسية هو احترام حياة الموظف الشخصية وعدم استنزاف طاقته بالكامل في العمل.
ضرورة وجود قنوات مستقلة وسرية للإبلاغ عن سوء المعاملة، مع التزام مؤكد بحماية المبلغين، ومعاقبة المسيئين.
الطيبة التي يحتاجها مكان العمل ليست فوضى في الانضباط ولا تساهلًا مع التقصير.
الطيبة في العمل تعني أن يشعر الموظف بأن مكان عمله امتداد طبيعي لقيم بيته ومجتمعه، لا قطيعة عنهما.
القائد الذكي هو من يعرف كيف يوازن بين قوة القرار وإنسانية الأسلوب.
إذا كانت ساعات العمل الطويلة مليئة بالتوتر وعدم الاحترام والإحباط، فإن ذلك يدمر سعادة الموظف ويؤثر سلباً على حياته.
دعوة لإطلاق مبادرة وطنية شاملة تحت عنوان “بيئة عمل إنسانية”.
اليوم العالمي للطيبة «اللّطف» : عندما تصبح الإنسانية استثماراً استراتيجياً في بيئة العمل
دعوة لإعادة اكتشاف قيمة الطيبة في بيئة العمل (العامة والخاصة) العصرية المتقدمة والحديثة
في عالم تتسارع فيه وتيرة الحياة، وتتزايد فيه الضغوط المهنية، وتسيطر عليه الأرقام ومؤشرات الأداء والمنافسة الشرسة، قد يبدو الحديث عن الطيبة واللطف في بيئة العمل ترفاً فكرياً أو مثالية بعيدة عن الواقع العملي. لكن الحقيقة التي تؤكدها الأبحاث العلمية والدراسات المؤسسية والتجارب العالمية الناجحة هي أن الطيبة هي استثمار استراتيجي ذكي يحقق عوائد ملموسة على مستوى الإنتاجية والإبداع والولاء المؤسسي والسعادة في بيئة العمل وليست فضيلة أخلاقية فحسب.
اليوم العالمي للطيبة، الذي يُحتفل به في الثالث عشر من نوفمبر من كل عام هو فرصة حقيقية للتوقف والتأمل في ثقافة بيئات العمل لدينا، وتقييم مدى تجذر قيم الإنسانية والاحترام والتعاطف في ممارساتنا اليومية، والأهم من ذلك، للتفكير الجدي في كيفية جعل الطيبة جزءاً أصيلاً من استراتيجيات المؤسسات الحكومية منها والخاصة. وليس مجرد مناسبة رمزية لتبادل الكلمات الجميلة والمشاعر الطيبة.
مجتمعاتنا العربية، بتاريخها العريق في كرم الضيافة والتكافل الاجتماعي، وبمجتمع الذي تتأصل فيه قيم الإسلام السمحة التي تدعو للرحمة والإحسان، هي في موقع فريد يؤهلها لقيادة تحول حقيقي نحو بيئات عمل أكثر إنسانية، لا تقيس النجاح بالأرقام فقط، بل بمدى سعادة وازدهار الإنسان الذي هو المحرك الحقيقي لكل نجاح وتقدم.
الطيبة «اللّطف» في بيئة العمل: علم وليس مجرد عاطفة
قبل الغوص في التطبيقات العملية والتوصيات المحددة لبيئة العمل للقطاعين العام والخاص، من الضروري فهم الأساس العلمي والمنطقي الذي يجعل من الطيبة «اللّطف» ضرورة مؤسسية وليست رفاهية أخلاقية.
الأبحاث في مجال علم النفس الإيجابي وسلوك المؤسسات أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن بيئات العمل القائمة على الاحترام والتقدير والدعم المتبادل تحقق نتائج استثنائية على مستويات متعددة. دراسة أجرتها جامعة أكسفورد البريطانية Business School, University of Oxford على أكثر من سبعمائة شركة حول العالم وجدت أن الموظفين السعداء أكثر إنتاجية بنسبة ثلاثة عشر بالمائة مقارنة بنظرائهم غير السعداء. والسعادة في بيئة العمل لا تأتي فقط من الراتب الجيد أو المزايا المالية، بل في جوهرها من الشعور بالتقدير والاحترام والانتماء، وكل هذه المشاعر تنبع من ثقافة الطيبة واللطف.
دراسة أخرى نُشرت في مجلة هارفارد بيزنس ريفيو Harvard Business Review (HBR) أظهرت أن ثقافة المكاتب السامة، حيث تسود الفظاظة والتنمر وعدم الاحترام، تكلف الاقتصاد الأمريكي وحده المليارات سنوياً بسبب فقدان الإنتاجية، وارتفاع معدلات الغياب المرضي، وزيادة دوران الموظفين، وانخفاض الجودة والإبداع. في المقابل، الشركات التي تستثمر في بناء ثقافة إيجابية قائمة على الطيبة والاحترام لا تحقق فقط بيئة أكثر سعادة، بل أيضاً نتائج مالية أفضل بشكل ملموس.
على المستوى البيولوجي، عندما يتعرض الإنسان لمعاملة طيبة أو يقوم بفعل طيب، يفرز الدماغ هرمونات مثل الأوكسيتوسين والدوبامين والسيروتونين، وهي المواد الكيميائية المسؤولة عن مشاعر السعادة والرضا والارتباط الاجتماعي. هذه الهرمونات تعزز الإبداع، وتقوي الذاكرة، وتحسن القدرة على حل المشكلات، وتزيد من المرونة في مواجهة التحديات وتحسن المزاج. بمعنى آخر، الطيبة ليست فقط تجعلنا نشعر بشكل أفضل، بل تجعلنا نعمل بشكل أفضل أيضاً.
واقع بيئة العمل حاليا: بين التحديات والفرص
لفهم كيف يمكن تطبيق ثقافة الطيبة في السياق المحلي، علينا أولاً أن نكون صادقين في تقييم الواقع الحالي لبيئات العمل في القطاعين العام والخاص.
القطاع الحكومي، الذي يستوعب الغالبية العظمى من القوى العاملة الوطنية، يعاني من تحديات عديدة تؤثر سلباً على بيئة العمل. البيروقراطية المفرطة، وضعف أنظمة المساءلة، وغياب معايير واضحة للتقييم والترقية، والمحسوبية في بعض الأحيان، كلها عوامل تخلق إحباطاً لدى الموظفين المجدين وتشجع على اللامبالاة. في مثل هذه البيئات، قد يُنظر للطيبة على أنها ضعف، وللصرامة والفظاظة على أنها علامة قوة، وهذا فهم مغلوط يدمر الروح المعنوية ويعيق التطور.
القطاع الخاص، رغم تقدمه النسبي في بعض الممارسات الإدارية، يواجه تحدياً مختلفاً. الضغط المستمر لتحقيق الأرباح، والمنافسة الشديدة، وأحياناً ثقافة العمل التي تمجد ساعات العمل الطويلة على حساب التوازن الحياتي، كلها قد تخلق بيئة عمل متوترة حيث يصبح الموظف مجرد رقم في معادلة الربح والخسارة. هنا أيضاً، الطيبة قد تُهمش باعتبارها تتعارض مع الكفاءة والإنتاجية، وهو اعتقاد خاطئ تدحضه كل الدراسات الحديثة.
لكن على الجانب الإيجابي، مجتمعاتنا تمتلك أساساً قوياً من القيم الإنسانية والدينية التي تدعو للطيبة والرحمة والإحسان. الثقافة العربية الأصيلة، المستمدة من التعاليم الإسلامية ومن تاريخ طويل في التعاون والتكافل الإجتماعي المتماسك، توفر أرضية خصبة لتنمية ثقافة الطيبة في بيئة العمل. فديننا الحنيف حث على ذلك منذ أكثر من 1400 سنة:
* قوله تعالى: (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن) على وجه الإطلاق وفي كل مجال . فيختاروا أحسن ما يقال ليقولوه .
* وقوله تعالى 🙁 قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) اجبُرُوا الخَواطِر ورَاعُوا المشَاعِر وانتقُوا كلماتِكم وتلطَّفُوا بأفعالكم وتذكرُوا العِشْرة. كلموهم طيبا ، ولينوا لهم جانبا وتشمل جميع الناس، وليست خاصة بمخاطبة الصالحين أو المؤمنين. قال أهل العلم: (والقول الحسن يشمل: الحسن في هيئته؛ وفي معناه، ففي هيئته: أن يكون باللطف، واللين، وعدم الغلظة، والشدة.
* وقال ﷺ ؛ “لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق“. الحديث دليل على استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء ( Friendly). يعني: حتى ولو كان أقل المعروف، فلابد أن تقابل أخاك بوجه ليس متجهماً ولا مكفهراً ولا عابساً، ولكن كن متبسما.
ما ينقصنا ليس القيم، بل الآليات المؤسسية والسياسات الواضحة التي تترجم هذه القيم إلى ممارسات يومية ملموسة في المكاتب والمصانع والمدارس والمستشفيات وكل مكان عمل.
دور القطاع العام: القيادة بالقدوة
بيئة العمل في القطاع العام، بالعموم يعتبر أكبر صاحب عمل في أغلب البلدان، فلذالك القطاع العام يتحمل مسؤولية مضاعفة. ليس فقط لتؤثيره مباشرة على حياة مئات الآلاف من الموظفين الحكوميين وعائلاتهم، بل لأن القطاع العام يضع المعايير والقدوة التي يتبعها القطاع الخاص والمجتمع بأكمله.
أول خطوة حاسمة هي إدراج قيم الطيبة والاحترام كجزء أصيل من سياسات الموارد البشرية في القطاع العام. هذا يعني عدم الاكتفاء بذكرها في مواثيق السلوك (Code of Conduct) التي لا يقرأها أحد، بل جعلها معياراً فعلياً في تقييم القادة والمديرين. المدير الناجح يجب أن يُقيّم ليس فقط بناءً على تحقيق الأهداف الكمية، بل أيضاً بناءً على كيفية معاملته لفريقه، ومدى خلقه لبيئة عمل داعمة ومحترمة. هذا يتطلب تطوير أدوات قياس موضوعية، مثل استطلاعات رأي دورية للموظفين حول بيئة العمل، وتقييمات ثلاثمائة وستين درجة تشمل آراء المرؤوسين والزملاء، ومحاسبة حقيقية على السلوكيات السلبية.
ثانياً، برامج تدريبية إلزامية للقيادات والمديرين على القيادة الإنسانية. المدير/ المسؤول الجيد اليوم يجب أن يمتلك ذكاءً عاطفياً عالياً، ومهارات في التواصل الفعال، وقدرة على التعاطف، وفهماً لعلم النفس الإيجابي وليس خبيراً تقنياً أو إدارياً. هذه المهارات يمكن تعلمها وتطويرها من خلال برامج تدريبية مصممة بعناية، تُقدم بشكل دوري ومستمر وليس كحدث لمرة واحدة.
ثالثاً، إنشاء آليات واضحة وآمنة للإبلاغ عن السلوكيات السلبية والتنمر. كثير من الموظفين يتحملون معاملة سيئة صامتين خوفاً من الانتقام أو لأنهم لا يثقون في أن الشكوى ستؤدي لنتيجة. يجب أن تكون هناك قنوات مستقلة وسرية للإبلاغ عن التنمر أو التحرش أو سوء المعاملة، مع التزام مؤكد بالتحقيق الجدي والسريع، وحماية المبلغين، ومعاقبة المسيئين بغض النظر عن مناصبهم.
رابعاً، تبني سياسات تدعم التوازن بين العمل والحياة. من أوضح تطبيقات الطيبة المؤسسية هو احترام حياة الموظف الشخصية وعدم استنزاف طاقته بالكامل في العمل. ساعات عمل معقولة، وإجازات كافية ومحترمة، ومرونة عند الحاجة لظروف عائلية أو صحية، وسياسات داعمة للآباء والأمهات العاملين، كلها تعكس طيبة مؤسسية حقيقية وليست شعارات جوفاء.
خامساً، الاستثمار في بيئة العمل المادية. الطيبة تبدأ من احترام كرامة الإنسان، وهذا يشمل توفير بيئة عمل صحية ونظيفة وآمنة ومريحة. مكاتب مزدحمة بلا تهوية جيدة أو إضاءة مناسبة، ودورات مياه غير نظيفة، ومرافق غير ملائمة، كلها رسائل واضحة بأن المؤسسة لا تقدر موظفيها. الاستثمار في البنية التحتية لبيئة العمل ليس ترفاً، بل ضرورة واحترام أساسي لكرامة الإنسان.
سادساً، برامج تقدير ومكافأة منتظمة. الاعتراف بجهود الموظفين وتقدير إنجازاتهم، ليس فقط المالي، بل أيضاً المعنوي، هو من أبسط وأقوى أشكال الطيبة المؤسسية. كلمة شكر صادقة، وتقدير علني للإنجازات، وشهادات تقدير، واحتفالات بالنجاحات الجماعية، كلها تكلف قليلاً لكن أثرها عميق على الروح المعنوية والولاء.
سابعاً، دعم الصحة النفسية للموظفين. الطيبة الحقيقية تعني الاهتمام بالإنسان كاملاً، ليس فقط كأداة إنتاج. توفير خدمات استشارية نفسية، وبرامج للتعامل مع الضغوط، وثقافة تفتح المجال للحديث عن التحديات النفسية دون وصمة، كلها علامات على مؤسسة تهتم حقاً برفاهية موظفيها.
دور القطاع الخاص: تحويل الطيبة إلى ميزة تنافسية
القطاع الخاص بالعموم، بحكم طبيعته التنافسية وسعيه الدائم للربحية والكفاءة، قد يبدو أقل ميلاً للتركيز على الجوانب الإنسانية والطيبة في بيئة العمل. لكن الحقيقة هي العكس تماماً: الشركات الخاصة التي تستثمر في خلق ثقافة إيجابية قائمة على الطيبة والاحترام تحقق ميزة تنافسية هائلة في جذب أفضل الكفاءات، واستبقاء الموظفين المتميزين، وتحفيز الإبداع والابتكار، وبناء سمعة قوية كصاحب عمل مفضل.
أولاً، دمج قيم الطيبة في استراتيجية الشركة ورؤيتها. لا يكفي أن تكون الطيبة شعاراً على الحائط، بل يجب أن تكون جزءاً من الحمض النووي للشركة. هذا يعني أن القيادة العليا تؤمن بها حقاً وتمارسها بالفعل، وأن سياسات الموارد البشرية مصممة لتعزيزها، وأن الموظفين يُحاسبون على التزامهم بها.
ثانياً، نماذج قيادية ملهمة. القادة في القطاع الخاص يجب أن يكونوا نماذج للطيبة والاحترام. القائد الذي يستمع باهتمام، ويشكر بصدق، ويدعم عند الحاجة، ويعترف بأخطائه، ويعامل الجميع بإنصاف بغض النظر عن مستواهم، هو قائد يبني ولاءً عميقاً وليس فقط طاعة سطحية.
ثالثاً، سياسات مرنة تحترم الحياة الشخصية. في عصر التكنولوجيا حيث يمكن العمل من أي مكان، الشركات التي توفر مرونة في أوقات وأماكن العمل، وتحترم حدود الموظفين بين العمل والحياة الشخصية، وتدرك أن الموظف ليس آلة تعمل أربعاً وعشرين ساعة، هي شركات تكسب ولاء موظفيها وإنتاجيتهم الحقيقية.
رابعاً، ثقافة التعلم من الأخطاء. بيئة العمل القائمة على الطيبة هي بيئة آمنة نفسياً حيث يمكن للموظفين تجربة أفكار جديدة، وارتكاب أخطاء، والتعلم منها دون خوف من العقاب القاسي أو السخرية. هذه البيئة هي التي تولد الإبداع والابتكار الحقيقيين.
خامساً، الاستثمار في تطوير الموظفين. من أوضح أشكال الطيبة المؤسسية هو الاستثمار في نمو وتطور الموظفين. توفير فرص تدريب وتطوير، ودعم التعليم المستمر، وخلق مسارات وظيفية واضحة، كلها رسائل بأن الشركة تهتم بمستقبل موظفيها وليس فقط بما يمكنهم تقديمه اليوم.
سادساً، برامج رفاهية شاملة. التأمين الصحي الجيد، وبرامج اللياقة البدنية، والدعم النفسي، وأنشطة اجتماعية لبناء علاقات بين الموظفين، وخصومات وامتيازات متنوعة، كلها تعبيرات عملية عن اهتمام الشركة برفاهية موظفيها الشاملة.
سابعاً، الشفافية والتواصل المفتوح. ثقافة الطيبة تتطلب شفافية في التواصل. الموظفون يستحقون أن يعرفوا ما يحدث في الشركة، وما هي التحديات والفرص، وكيف تُتخذ القرارات. التواصل الصادق والمفتوح يبني الثقة، وعدم الشفافية يولد الشائعات والقلق.
ثامناً، المسؤولية الاجتماعية الحقيقية. الطيبة لا تقف عند حدود المكتب. الشركات التي تشجع وتدعم موظفيها للمشاركة في أعمال خيرية وتطوعية، وتساهم بفعالية في خدمة المجتمع، تخلق إحساساً بالفخر والانتماء لدى موظفيها، وتعزز قيمة الطيبة كأسلوب حياة وليس فقط سياسة عمل.
التأثير على الإنتاجية: أرقام لا تكذب
الحديث عن الطيبة والإنسانية قد يبدو عاطفياً وفلسفياً، لكن عندما ننظر للأرقام والبيانات، نجد أن الأمر أكثر واقعية وعملية مما يتخيل البعض.
دراسة شملت مائتي شركة أمريكية وجدت أن الشركات التي تتمتع ببيئة عمل إيجابية تحقق عائداً على الأسهم أعلى بنسبة خمسة عشر إلى ثلاثين بالمائة من الشركات ذات البيئة السلبية. دراسة أخرى من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أظهرت أن الموظفين الذين يشعرون بالتقدير والدعم من قادتهم يكونون أكثر إنتاجية بنسبة خمسين بالمائة، وأكثر احتمالاً للبقاء في الشركة بنسبة سبعة وثمانين بالمائة، وأكثر التزاماً ومشاركة في العمل بنسبة مائتين وخمسين بالمائة.
في السياق المحلي، رغم قلة الدراسات المحلية المتخصصة، الملاحظات الميدانية والتجارب العملية تشير لنفس الاتجاه. المؤسسات والشركات التي عُرفت ببيئة عمل إيجابية ومعاملة طيبة للموظفين تحقق معدلات دوران وظيفي منخفضة، وتجذب أفضل الكفاءات، وتتمتع بسمعة ممتازة في سوق العمل. في المقابل، المؤسسات المعروفة ببيئة عمل سامة تعاني من فقدان مستمر للمواهب، وصعوبة في التوظيف، وإنتاجية متدنية، حتى لو كانت الرواتب مرتفعة.
الطيبة تؤثر على الإنتاجية من خلال قنوات متعددة. أولاً، تقلل التوتر والقلق، وهما من أكبر قتلة الإنتاجية. ثانياً، تعزز التعاون والعمل الجماعي، وفي عالم اليوم المعقد، معظم الإنجازات تتطلب عملاً جماعياً فعالاً. ثالثاً، تحفز الإبداع لأن الموظفين يشعرون بالأمان لتجربة أفكار جديدة. رابعاً، تقلل الغياب المرضي لأن الموظفين السعداء أكثر صحة. خامساً، تزيد الولاء والالتزام، فالموظف الذي يشعر بالتقدير يبذل جهداً إضافياً طوعاً وليس فقط الحد الأدنى المطلوب.
التأثير على السعادة: الهدف الأسمى
إذا كانت الإنتاجية هي المبرر العملي لتبني ثقافة الطيبة، فإن السعادة هي الهدف الأسمى والغاية النبيلة. في نهاية المطاف، المؤسسات والشركات موجودة لخدمة الإنسان وليس العكس. النجاح الاقتصادي مهم، لكنه وسيلة وليس غاية. الغاية الحقيقية هي تحقيق حياة كريمة وسعيدة للإنسان، والعمل جزء أساسي من هذه الحياة.
الموظف، كغيره من البشر في كل مكان، يقضي ثلث حياته على الأقل في العمل. إذا كانت هذه الساعات الطويلة مليئة بالتوتر وعدم الاحترام والإحباط، فإن ذلك يدمر سعادته ويؤثر سلباً على صحته النفسية والجسدية وعلاقاته الأسرية والاجتماعية. في المقابل، إذا كانت بيئة العمل داعمة ومحترمة ومقدرة، فإن العمل يصبح مصدر سعادة وفخر وإنجاز، يثري الحياة بدلاً من أن يستنزفها.
السعادة في العمل ليست مسؤولية فردية فقط، بل هي أيضاً مسؤولية مؤسسية. المؤسسة التي تهتم حقاً بموظفيها تسأل نفسها باستمرار: هل موظفونا سعداء؟ هل يشعرون بالتقدير؟ هل يجدون معنى في عملهم؟ هل العلاقات بين الزملاء إيجابية؟ هل القادة يدعمون ويحفزون؟ وعندما تكون الإجابة لا، تتخذ إجراءات فورية للتصحيح.
دولة الكويت، في رؤيتها الوطنية 2035 الطموحة، تطمح لأن تكون مركزاً مالياً وتجارياً رائداً. هذا الطموح لن يتحقق بالبنية التحتية والقوانين فقط، بل بالأساس برأس المال البشري السعيد والمنتج والمبدع. الاستثمار في سعادة الموظفين هو استثمار في مستقبل البلد.
دعوة للعمل: من الكلام إلى التطبيق
اليوم العالمي للطيبة فرصة لا تُعوض، لكنها لن تعني شيئاً إذا بقيت مجرد كلمات جميلة على وسائل التواصل الاجتماعي أو خطابات رسمية تُلقى ثم تُنسى. التغيير الحقيقي يتطلب إرادة وخطوات عملية وملموسة.
علي القطاع العام والخاص، الدعوة لإطلاق مبادرة وطنية شاملة تحت عنوان “بيئة عمل إنسانية”، تتضمن مراجعة جذرية لسياسات وممارسات الموارد البشرية في جميع الجهات في القطاعين، وإصدار ميثاق وطني للطيبة والاحترام في بيئة العمل، وإنشاء جهة رقابية مستقلة لتلقي الشكاوى ومتابعة التطبيق، وإطلاق حملات توعية واسعة، وربط جوائز التميز الحكومي والخاص بمعايير واضحة لجودة بيئة العمل وسعادة الموظفين.
علي وزارة الشؤون والهيئة العامة للقوى العاملة (PAM) والجمعيات المهنية والمجتمعية، الدعوة هي لقيادة حملة في القطاعين للتشجيع على تبني ميثاق الطيبة في بيئة العمل، وإنشاء جوائز سنوية لأفضل بيئات العمل، وتقديم استشارات ودعم للشركات الراغبة في تحسين ثقافتها المؤسسية، ونشر قصص النجاح والممارسات الفضيلة.
للقادة والمديرين في كل المستويات، الدعوة هي للنظر في المرآة بصدق والسؤال: كيف أعامل فريقي؟ هل أستمع حقاً؟ هل أقدر جهودهم؟ هل أدعمهم عند الحاجة؟ هل أخلق بيئة آمنة وإيجابية؟ والأهم، الالتزام بالتغيير الفعلي بدءاً من اليوم.
للموظفين أنفسهم، الدعوة هي لعدم قبول المعاملة السيئة كأمر طبيعي، والمطالبة بحقوقهم في بيئة عمل محترمة، وفي نفس الوقت، أن يكونوا هم أنفسهم مصدراً للطيبة واللطف مع زملائهم، لأن التغيير يبدأ من كل واحد منا.
للمجتمع المدني والإعلام، الدعوة هي لتسليط الضوء على هذه القضية، وفضح الممارسات السيئة، والاحتفاء بالنماذج الإيجابية، وخلق حوار وطني حول أهمية الطيبة والإنسانية في عالم العمل.
قصص ملهمة: عندما تتحول الطيبة إلى واقع
فالكويت هناك قصص واقعية تُظهر أن الطيبة في بيئة العمل ليست خيالاً، بل واقع ممكن وله نتائج مذهلة. فهناك شركات ومؤسسات بدأت تتبنى هذا النهج بجدية، وإن كانت ما تزال استثناءات تحتاج لأن تصبح القاعدة. شركات في قطاعات الاتصالات والبنوك والطاقة والنفط بدأت تستثمر في برامج رفاهية الموظفين، وتطوير القيادات، وبناء ثقافة إيجابية، وتحصد ثمار هذا الاستثمار في صورة موظفين أكثر التزاماً وإنتاجية.
التحديات المتوقعة وكيفية التغلب عليها
التغيير نحو ثقافة أكثر طيبة وإنسانية في بيئة العمل لن يكون سهلاً، وسيواجه مقاومة ومعوقات يجب أن نكون صادقين في الاعتراف بها والاستعداد لها.
أول تحدٍ هو العقلية التقليدية التي ترى الصرامة والتسلط كعلامة قوة، والطيبة كعلامة ضعف. هذه العقلية متجذرة في بعض المديرين والقادة الذين نشأوا في بيئات عمل قديمة. التغلب على هذا يتطلب توعية مكثفة، وتدريب، وإظهار أمثلة ملموسة لنجاح القيادة الإنسانية، والأهم، محاسبة على السلوكيات السلبية.
التحدي الثاني هو الخوف من التكلفة. بعض المؤسسات قد ترى أن الاستثمار في رفاهية الموظفين وبرامج السعادة تكلفة إضافية لا يمكن تحملها. الرد على هذا هو بالأرقام: تكلفة بيئة العمل السامة أعلى بكثير من تكلفة الاستثمار في بيئة إيجابية. الدوران الوظيفي، والغياب، وانخفاض الإنتاجية، كلها تكاليف مخفية لكنها هائلة.
التحدي الثالث هو البيروقراطية والمقاومة المؤسسية للتغيير، خاصة في القطاع العام. الأنظمة واللوائح القديمة، والمصالح الخاصة، والخوف من المساءلة، كلها قد تعيق التغيير. التغلب على هذا يتطلب إرادة سياسية قوية من القيادة العليا، ودعم شعبي، وإعلام فاعل.
التحدي الرابع هو قياس الأثر. كيف نقيس الطيبة؟ كيف نعرف أن الاستثمار في بيئة العمل الإيجابية يؤتي ثماره؟ الحل هو في تطوير مؤشرات أداء واضحة: استطلاعات دورية لرضا الموظفين، ومعدلات الدوران الوظيفي، ومعدلات الغياب، ومؤشرات الإنتاجية، والإبداع والابتكار. هذه المؤشرات يمكن قياسها ومتابعتها بدقة.
رؤية مستقبلية: الكويت رائدة في الإنسانية المؤسسية
تخيلوا كويت في عام 2035، حيث كل مؤسسة حكومية وكل شركة خاصة تفتخر ببيئة عملها الإنسانية، حيث الموظفون يذهبون للعمل بحماس لا بإحباط، حيث القادة يُقيّمون بمقدار دعمهم وتطويرهم لفرقهم لا فقط بالأرقام المالية، حيث الطيبة والاحترام هما القاعدة وليس الاستثناء.
هذه ليست يوتوبيا بعيدة المنال، بل هدف قابل للتحقيق إذا توفرت الإرادة والالتزام. الكويت لديها كل المقومات: مجتمع متماسك، وقيم دينية وثقافية تدعو للطيبة، وموارد مالية تسمح بالاستثمار، وجيل شاب متعلم ومنفتح على الأفكار الحديثة.
الكويت يمكن أن تكون رائدة في المنطقة، ليس فقط في النمو الاقتصادي، بل في بناء نموذج إنساني للتنمية، حيث النجاح يُقاس بسعادة الإنسان وكرامته، لا فقط بالأرقام في الميزانيات. هذا النموذج، إذا تحقق، سيكون إرثاً أعظم من أي برج شاهق أو طريق سريع، لأنه سيترك أثراً في نفوس وحياة ملايين البشر.
خاتمة: كل يوم هو يوم للطيبة
اليوم العالمي للطيبة يُحتفل به مرة واحدة في السنة، لكن الطيبة يجب أن تُمارس كل يوم. الكلمة الطيبة صباحاً للزميل، والشكر الصادق على عمل أُنجز، والاستماع الحقيقي لمشكلة موظف، والمرونة عند ظرف طارئ، والاعتراف بخطأ، والدفاع عن موظف تعرض لظلم، كل هذه أفعال صغيرة لكن أثرها كبير.
الطيبة ليست ضعفاً، بل القوة الحقيقية. ليست ترفاً، بل ضرورة. ليست عكس الكفاءة، بل طريق لها. ليست مثالية خيالية، بل استراتيجية واقعية ذكية.
في عالم يزداد تعقيداً وسرعة وتوتراً، الطيبة هي الملاذ الآمن، والعلاج الشافي، والطريق للسعادة الحقيقية. في بيئات العمل، حيث يقضي الإنسان ثلث حياته، الطيبة ليست خياراً، بل واجب أخلاقي ومؤسسي.
الكويت، ببلدها الطيب وشعبها الكريم، تستحق بيئات عمل ترقى لقيمها وتطلعاتها. القطاع الحكومي والخاص، القادة والموظفون، الجميع يتحمل مسؤولية بناء هذا المستقبل.
اليوم، في اليوم العالمي للطيبة، لنجدد العهد: بيئات عملنا ستكون أكثر إنسانية، أكثر احتراماً، أكثر طيبة. ليس غداً، بل بدءاً من اليوم، من اللحظة التي نعود فيها لمكاتبنا. كلمة طيبة، ابتسامة صادقة، تقدير معلن، دعم حقيقي، قد تبدو أفعالاً بسيطة، لكنها البذور التي تنبت منها ثقافة جديدة، وتُبنى عليها مؤسسات أفضل، ويُصنع منها مستقبل أكثر سعادة وازدهاراً للجميع. الطيبة ليست حلماً، بل قرار. وهذا القرار، اليوم، الآن، بيد كل واحد منا. فلنختر الطيبة، ولنبنِ معاً الكويت التي نحلم بها، كويت تنجح لا رغم إنسانيتها، بل بسبب إنسانيتها.



