مقالات

“القناع والوجه الآخر”: معركة قانونية لكشف “وجه المجرم الحقيقي” خلف ستار الملكية

 

بقلم : عمرو علاء

 مسؤول مطابقة والتزام

في عالم مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ما بين المستفيد الفعلي والمالك القانوني، هناك معركة قانونية ورقابية وتنظيمية لكشف “وجه المجرم الحقيقي” خلف ستار الملكية، فلم تعد مراجعة الأوراق الرسمية كافية، ولم يعد الاسم المدون في السجل التجاري نهاية الطريق.

لقد ولى زمن الامتثال القائم على الشكل، وحل محله عصر البحث عن الحقيقة الكاملة، اليوم تدور المعركة الحقيقية حول كشف “القناع” والوصول إلى “الوجه”.

المعركة: بين المالك القانوني والمستفيد الفعلي.

لقد تعلم المجرمون جيدا كيف يستغلون الهياكل القانونية المعقدة والكيانات العابرة للحدود من شركات واجهة وصناديق ائتمانية لإخفاء هوياتهم وتمويل أنشطتهم غير المشروعة، وكان الفشل في اختراق هذا الستار سببا مباشرًا في كبرى الكوارث الرقابية عالمياً.

تجاهل المستفيد الفعلي: عندما دفع BNP Paribas الثمن

تُعد قضية بنك BNP Paribas مثالًا صارخًا على خطورة الاكتفاء بالمالك القانوني وإغفال المستفيد الفعلي الحقيقي، ففي عام 2014 اعترف البنك بانتهاكه العقوبات الاقتصادية الأميركية المفروضة على دول مثل السودان وإيران وكوبا، وذلك بعد قيامه بمعالجة معاملات بمليارات الدولارات عبر النظام المالي الأميركي لصالح كيانات محظورة.

لم تكن جوهر القضية مجرد تنفيذ معاملات مخالفة، بل إخفاء الهوية الحقيقية للأطراف المستفيدة فعلياً، حيث جرى حذف أو إخفاء بيانات تتعلق بالمنشأ والمستفيد النهائي للمدفوعات، ما عطل قدرة أنظمة الرقابة على رصد المخاطر في وقتها.

وانتهت القضية بفرض غرامة تاريخية تجاوزت 8.9 مليارات دولار، وهي أكبر غرامة تفرض على بنك، إضافة إلى قيود تشغيلية صارمة، لتؤكد أن الاعتماد على المستندات الرسمية وحدها دون التحقق من السيطرة والانتفاع الحقيقي يحول الامتثال إلى إجراء شكلي ويعرض النظام المالي لمخاطر جسيمة.

فك الاشتباك: من يملك الاسم ومن يملك القرار.

يعد التمييز الواضح بين المفهومين حجر الزاوية في أي نظام امتثال فعال:

 

المالك القانوني :

هو الشخص أو الكيان الذي يظهر اسمه في السجلات الرسمية ويتمتع بالحق القانوني في التصرف، لكنه في كثير من الحالات لا يتجاوز كونه واجهة قانونية أو شركة قابضة لا تمارس سيطرة فعلية.

المستفيد الفعلي:

هو الشخص الطبيعي الذي يمتلك أو يسيطر بشكل مباشر أو غير مباشر على العميل، سواء من خلال الملكية ( امتلاك نسبة مؤثرة من رأس المال (غالبًا 25% أو أكثر) أو من خلال السيطرة (ممارسة النفوذ النهائي على القرارات والإدارة، حتى دون امتلاك تلك النسبة)

وبعبارة موجزة المالك القانوني يوقّع، أما المستفيد الفعلي فيقرر ويستفيد.

مجموعة العمل الماليFATF : لماذا جعلت تحديد المستفيد الفعلي التزاماً لا خياراً.

لم يعد تحديد المستفيد الفعلي مسألة إجرائية، بل أصبح التزاماً دولياً بموجب توصيات مجموعة العمل المالي التى تُلزم الدول والمؤسسات بضمان شفافية الملكية الحقيقية للأشخاص الاعتباريين، ومنع إساءة استخدام الشركات لإخفاء هوية المستفيدين الفعليين، وتوصيات تفرض تحديد المستفيدين الحقيقيين والأوصياء وأي شخص يمارس سيطرة فعلية.

 

وتكمن أهمية ذلك في ثلاثة محاور رئيسية:

1- مكافحة الجريمة المنظمة وتمويل الإرهاب عبر قطع الصلة بين الأموال غير المشروعة ومن يقفون خلفها.

2- حماية سمعة المؤسسات المالية من مخاطر التعامل غير المقصود مع أشخاص خاضعين للعقوبات أو شخصيات سياسية بارزة (PEPs).

3- تعزيز الشفافية الدولية من خلال معلومات موثوقة عن الملكية الحقيقية تكون متاحة للجهات المختصة عند الطلب.

المتاهة القانونية: كيف يُخفى المستفيد الحقيقي.

يستغل غاسلو الأموال تعقيد الأطر القانونية لبناء متاهات يصعب اختراقها، أبرزها:

* الهياكل الهرمية متعددة الطبقات عبر ولايات قضائية مختلفة.

* الصناديق الائتمانية وتعيين أوصياء قانونيين يفصلون الملكية عن السيطرة.

* الأسهم لحاملها، رغم تقييدها دوليًا، وما تمثله من عتمة عالية المخاطر.

ولهذا تؤكد مجموعة العمل المالي على ضرورة عدم الاكتفاء بالمستندات، بل التحقق من السيطرة الفعلية باستخدام نهج قائم على المخاطر، والاستفادة من أدوات التحليل والتكنولوجيا الحديثة لرسم خرائط الملكية المعقّدة.

عزيزي القارئ

إن الفصل بين الملكية القانونية والسيطرة الفعلية هو أخطر ثغرة يمكن أن يستغلها غاسلو الأموال، وتكلفة تجاهل هذه الثغرة لا تقاس بالغرامات وحدها، بل بتآكل الثقة في النظام المالي بأكمله.

المؤسسات التي تسعى للحفاظ على سمعتها واستدامتها مطالبة بالانتقال من الامتثال الشكلي إلى التحقق الجوهري من جمع الأوراق إلى فهم من يقف خلفها.

 

الأمن المالي يبدأ عندما نعرف من يملك القرار لا من يملك التوقيع”

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى