“فخ الرواتب”: حينما نوفّر الدينار لنخسر المليون!
بقلم: سيد ترهوني – مدير إدارة مخاطر
(CMA, PMI-RMP)
في القوائم المالية التقليدية، يظهر بند “الرواتب” ضمن المصروفات. لكن في الواقع، يُعتبر هذا البند أهم استثمار رأسمالي غير ملموس تملكه المؤسسة. هنا يكمن الخطأ القاتل الذي ترتكبه بعض الإدارات حين تقع تحت ضغط خفض التكاليف، فتبدأ بأسهل الحلول وأكثرها تدميراً: تقليص الرواتب أو استبدال الكفاءات الخبيرة ببدائل أرخص.
بصفتي متخصصاً في إدارة المخاطر، أرى أن هذا الإجراء ليس توفيراً، بل هو “وهم” يؤدي إلى “تفريغ استراتيجي لعقل المؤسسة”. الشركة التي تتخلى عن “أهل الخبرة” لصالح “أهل الثقة” أو “الأقل سعراً”، هي في الحقيقة تشتري تذكرة ذهاب بلا عودة نحو فقدان قدرتها التنافسية.
تكلفة “الجهل” أغلى من ثمن “الخبرة”
من كلاسيكيات الإدارة ذلك الحوار الشهير: حين سُئل مدير تنفيذي: “ماذا لو استثمرنا في تدريب موظفينا ثم رحلوا؟”، فأجاب بحكمة: “وماذا لو لم ندربهم وبقوا؟!”. الموظف غير الكفء، حتى براتب منخفض، يفرض على الشركة تكلفة خفية تظهر بوضوح في: فرص ضائعة نتيجة قرارات خاطئة أو تردد في اقتناص الفرص، هدر للموارد بسبب أخطاء تشغيلية وسوء تقدير، تأكل السمعة جراء خدمة عملاء سيئة أو منتج رديء.
من منظور إدارة المخاطر، راتب الخبير ليس تكلفة، بل هو بوليصة تأمين فعّالة ضد القرارات الخاطئة.
“نزيف الذاكرة المؤسسية”.. الخطر الصامت
عندما يغادر موظف خبير بسبب ضعف التقدير المالي أو المعنوي، فهو لا يحمل معه متعلقاته الشخصية فقط، بل يأخذ معه أخطر أصول الشركة غير الملموسة: “الذاكرة المؤسسية”. هذه الذاكرة تشمل سنوات من الخبرة المتراكمة، وشبكة علاقات بنيت بالثقة، وفهم عميق لدقائق العمل التي لا تُكتب في الكتيبات.
هذا “النزيف المعرفي” (Brain Drain) هو مخاطرة استراتيجية كبرى؛ فاستبدال هذا الشخص قد يستغرق وقتاً طويلاً، وخلال هذه الفترة تفقد الشركة توازنها وتتعرض للمزيد من المخاطر.
الحفاظ على الكفاءات ليس رفاهية، بل هو حماية لخط الدفاع الأول عن أصول الشركة الفكرية.
الفاتورة الخفية للدوران الوظيفي
كثير من الشركات تغفل عن حساب التكلفة الحقيقية لاستبدال الموظفين. تشير الدراسات إلى أن تكلفة استبدال موظف محترف قد تصل إلى 200% من راتبه السنوي. هذه التكلفة تشمل مصاريف التوظيف، والتدريب، والوقت الضائع للوصول إلى الإنتاجية المطلوبة، فضلاً عن الأثر السلبي على معنويات باقي الفريق. عندما تضغط الشركة على الرواتب وتزيد معدل الدوران الوظيفي، فهي عملياً تدفع “ضريبة خفية” تلتهم أرباحها بصمت.
وهم “الموظف السوبرمان” وتكلفة الاحتراق
في محاولة يائسة للتوفير، تلجأ بعض الشركات إلى تحميل موظف واحد مهام ثلاثة أشخاص، وتسميه “الموظف الخارق”. لكن الحقيقة المؤلمة هي أن الموظف المنهك ليس بطلاً، بل ضحية. النتيجة الحتمية هي “الاحتراق الوظيفي” (Burnout). الموظف المحترق يفقد شغفه، وتزداد أخطاؤه. وخطأ قاتل واحد منه قد يكلف الشركة ما يفوق رواتب فريق كامل لعام.
الإدارة الذكية تدرك أن الاستثمار في فريق متوازن ومستقر هو أفضل وسيلة لضمان جودة الأداء واستدامته.
ختاماً: الاستثمار في العقول.. رهان المستقبل الرابح
رسالتي لكل قائد وصانع قرار: لا تنظروا إلى جدول الرواتب كـ “عبء” يجب تقليصه، بل كـ “لوحة تحكم” لمحرك النمو البشري في شركتكم. الشركات العظيمة لا تُبنى بالجدران والمعدات، بل بالعقول التي ترى الخطر قبل أن يقترب، وتبتكر الحل قبل أن يُطلب. وفي ظل التحديات المتسارعة، لن تكون الغلبة لمن يملك المال الأكثر، بل لمن يملك العقول الأفضل والأكثر استقراراً.
تذكروا دائماً المقولة الخالدة: “إذا كنت تعتقد أن توظيف المحترفين مكلف، فجرّب تكلفة توظيف الهواة”.




