مقالات

الشركــات العائليــة في الكويــت:تشريــعٌ لديناميكيــات المــال و الحــب و السلطــة

د. مشاعــل عبــد العزيــز الهاجــري
كليــة الحقــوق – جامعــة الكويــت

وصف أرثر ميلر العائلة بأنها “الأمان، و الحب، و راحة النفس، و الإحساس بالهوية و الكرامة”. و لكن هذا الوصف إن كان صحيحاً مع “العائلة” بالمعنى الحميم الضيق، فهو ليس كذلك بالضرورة مع “الشركات العائلية” بالمعني التقني الأكثر برودة، مهما حاول مؤسسوها. فالأخيرة – و إن كانت بداياتها تقوم على اعتباراتٍ من الأولى – إلا أن توسعها من جهة و تلاحق الأجيال فيها من جهة أخرى يجعل مسيرتها تنشق عن بداياتها، بشكلٍ درامي.

لقد بدأ أغلب الشركات العائلية في دول الخليج العربية واستمر في ظل بدايات الدول التي قامت فيها، ولذلك، فإن التعقيدات التي وجدت هذه الشركات ذاتها فيها هي نتيجة مباشرة (وإن كانت ممتدة زمنيا) لغياب البيئة التشريعية المنظمة آنذاك. أما الآن، فإن الشركات العائلية الجديدة أو تلك التي ستنشأ مستقبلاً لن تجد ذاتها في مثل هذه التعقيدات لأن “النظام البيئي التشريعي” المحيط بها – إن صح التعبير – قد بدأ في تنظيم التحديات التقليدية التي تقوم أمامها (كمسائل هيكلة رأس المال و الاستحواذ و التخارج و تسوية الديون و مسئوليات مجلس الإدارة و دخول المستثمر الاستراتيجي و الإدراج في البورصة و عداها). إذ بالنهاية، تتعلق الأوضاع القانونية للشركات العائلية، بالضرورة، بعدة قوانين تقليدية، مثل قانون الشركات و القانون المدني و الوكالات التجارية و عداها. أما قانون الأحوال الشخصية الذي ينظم الميراث في دولنا العربية، فينبغي التذكر دائماً أنه – بشكل عام – ينظم الميراث على أساس من الشريعة الإسلامية، بما يعني أن الشريعة هي أمر لا يمكن التحلل منه في مسائل الميراث. لذلك، فالأمر يختلف عنه في الولايات المتحدة و الدول الأوروبية التي تطبق فيها قوانين التعاقب المالي الخاصة بالإرث و التركات (Succession Laws).

بل أن التشريعات قد بدأت تصدر في دول الخليج تباعاً من أجل تنظيم الشركات العائلية قانونا (رغم تحفظي على بساطتها و ما أراه من كونها أقرب للتنظيم الإداري و الحوكمي منها للتشريع). ففي دبي، صدر القانون رقم 9 لسنة 2020 بشأن تنظيم الملكية العائلية في إمارة دبي لكي يجيب على كثير من التساؤلات التي يثيرها واقع هذه الشركات. و بعده بسنتين، صدر المرسوم الاتحادي رقم 37 لسنة 2022 بشأن الشركات العائلية في دولة الإمارات العربية المتحدة.

و حتى إن كانت البيئة التشريعية الحالية غير كافية للشركات العائلية الجديدة، فهناك دائماً إمكانية اللجوء للأطر التعاقدية من أجل تنظيم الأمور من بداياتها. وبالإضافة إلى هذه وتلك، يمكن باستمرار التعامل أكثر جدية مع ما يبدو أنه مجرد مسائل حوكمية غير ملزمة؛ فهناك أدوات مثل بروتوكولات الشركة العائلية (ناهيك عن اتفاقية المساهمين/ عقد تأسيس الشركة طبعاً)، وهي بروتوكولات ليس هناك ما يمنع من إضفاء الصفة العقدية الملزمة عليها. و بطبيعة الحال، فإن أصحاب الشركات العائلية يمكنهم (بل ويجب عليهم) اللجوء إلى الفصل بين مهمة إدارة الشركة وملكية رأس المال، حتى تكون الشركة العائلية بعيداً عن التقلبات السوقية والمالية التي يخشى أن تؤثر على أفراد العائلة وعلاقاتهم الشخصية.

لا شك أن جميع ما تقدم ينبغي أن يؤخذ بالاعتبار، ومع ذلك، فالحقيقة تظل أن المشرع الكويتي ينبغي أن يتحرك في مجال تنظيم الشركات العائلية الكويتية، فيصدر قانوناً في هذا الشأن. فالتجارب الحزينة في الدول الغربية (وربما العربية أيضا، ولكننا نفتقر للإحصاءات الدقيقة في العالم العربي) هي أن استمرار الشركة العائلية إلى الجيل الثالث أو الرابع هو أمر تعترضه صعوبات كثيرة. وأنا أظن أن استمرار بعض هذه الشركات لمدد أطول من ذلك في بعض دولنا العربية، لاسيما الخليجية منها، ما هو إلا أمر مظهري فقط، فنحن نعلم حجم النزاعات القضائية بين أفراد عائلات هذه الشركات (وشراستها أحياناً).

يُذكر أن لابن خلدون تحليل هام في هذا الشأن، ورغم أنه كتب في مقدمته ما كتب على خلفيةٍ سياسية، إلا أنني أرى أنه ينطبق – تماماً – على الشركات العائلية أيضا:
“في أن نهاية الحسب في العقب الواحد أربعة آباء: “إعلم أن … كل شرف و حسب فعدمه سابق عليه شأن كل محدث، ثم أن نهايته في أربعة آباء، وذلك أن باني المجد عالم بما عاناه في بنائه ومحافظة على الخلال التي هي أسباب كونه وبقائه، وابنه من بعده مباشرة لأبيه، فقد سمع منه ذلك و أخذه عنه، إلا أنه مقصر في ذلك تقصير السامع بالشيء عن المعاني له، ثم إذا جاء الثالث كان حظه الاقتفاء والتقليد خاصة، فقصر عن الثاني تقصير المقلد عن المجتهد، ثم إذا جاء الرابع قصر عن طريقتهم جملة وأضاع الخلال الحافظة لبناء مجدهم واحتقرها، وتوهم أن ذلك البنيان لم يمكن بمعاناة ولا تكلف، وإنما هو أمر وجب لهم منذ أول النشأة بمجرد انتسابهم وليس بعصابة ولا بخلال، لما يرى من التجلة بين الناس ولا يعلم كيف كان حدوثها ولا سببها، و يتوهم أنه النسب فقط، فيربأ بنفسه عن أهل عصبيته، ويرى الفضل له عليهم وثوقاً بما ربي فيه من استتباعهم وجهلاً بما أوجب ذلك الاستتباع من الخِلال”.
ورغم ما تقدم، يبقي من العدالة أن نذكر أن للعديد من الشركات العائلية، الخليجية عموماً والكويتية خصوصاً، تجارب مميزة تطورت بمرور الزمن، بحيث تم إدارتها بسلاسةٍ من جيل لآخر، حتى وصلت بعض الشركات إلى جيلها الرابع أو الخامس، كما أنه من غير المبالغ فيه القول – ربما – أن بعضها خلق من الإرث الإداري الناجح ما يصلح معه أن يعتبر من “أفضل الممارسات” في هذا المجال (Best Practices).

ومع ذلك، فالتحديات كثيرة، والآمال كبيرة، والأمل معقود على المشرع الكويتي، كي يلتفت إلى هذا المجال فينظمه تشريعياً، لا سيما وأن القضاء الكويتي قد سبقه في التنبه إلى أهمية علاقات النسب – “لاعتبار قدرها” على حد تعبير محكمة التمييز – مما يعني أن الشركات التجارية التي تقوم على النسب العائلي هي شركات ذات طبيعة متميزة، تختلف كثير الاختلاف عن الشركات التجارية العادية التي تقوم على أساسٍ مالي بحت.

وأنا، وإن كنت بدأت موضوعي هذا بوصف ميلر الحالم الذي يصف فيه “العائلة”، إلا أن دوافع الواقع وإملاءاته تجعلني – في وصف “الشركات العائلية” – أميل إلى كلمات الروائي البرتغالي خوزيه ساماراغو (رغم أنه هو أيضا كان يصف “العائلة” فيما كتب)؛ فأنا أجد “الشركات العائلية” التي تفتقر للتنظيم القانوني هي “البيت المثالي لكل تناقض، مهد كل الأنانية”.

لا جديد: هذا هو الشرط الإنساني، وما يحدث في أية مؤسسةٍ تتضافر فيها ديناميكيات المال – الكثير من المال – والحب والسلطة والقيمة والعلاقات الاجتماعية، وهو ما يستدعي إصدار التشريعات المنظمة للأوضاع القانونية للشركات العائلية في الكويت. آن الأوان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى