التوتر الأمريكي الأوروبي: قراءة جديدة في التحولات الجيوسياسية

مقدمة
لطالما كانت الولايات المتحدة وأوروبا شركاء استراتيجيين لا ينفصلان، متحدين تحت راية القيم الديمقراطية والمصالح المشتركة. ولكن الأحداث الأخيرة، مثل انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ والخلافات التجارية في منظمة التجارة العالمية، تكشف عن تصدعات متزايدة في هذا التحالف. هذه التحولات تثير تساؤلات عميقة حول مستقبل العلاقة بين الطرفين وتأثيرها على النظام العالمي.
سياسات ترامب: إعادة رسم العلاقة
يبدو أن الرئيس ترامب ينتهج سياسة جديدة في التعامل مع أوروبا، قائمة على إعادة تعريف الأولويات الأمريكية. فقد أمر ترامب مؤخراً بإعداد خطة لزيادة التعريفات الجمركية على الصادرات الأوروبية، بعد فرض تعريفات على الصلب والألمنيوم. هذه الخطوة، التي وصفها القادة الأوروبيون بالتصعيد، قوبلت بتهديدات بالرد بالمثل، مما يعكس اتجاهاً جديداً في العلاقة الأمريكية الأوروبية قائم على التنافس بدلاً من التعاون.
من جهة أخرى، أكد نائب الرئيس جي دي فانس خلال زيارته لأوروبا أن الهيمنة الأمريكية على الذكاء الاصطناعي ستظل أولوية، مشيراً إلى أن على أوروبا تخفيف القيود التنظيمية وفتح أسواقها أمام الشركات الأمريكية. هذا التصريح يعكس رغبة واشنطن في فرض شروطها على أوروبا بدلاً من بناء شراكة متوازنة.
أما في ملف الحرب الروسية الأوكرانية، فقد تجاهل ترامب إشراك القادة الأوروبيين في المحادثات، مفضلاً بدء التفاوض مع بوتين أولاً. هذه الخطوة، التي وصفها البعض بالإهانة الدبلوماسية، أثارت قلقاً واسعاً بين الدول الأوروبية التي تعتمد على الولايات المتحدة في ضمان أمنها الإقليمي.
أوروبا بين الضغوط والتحديات
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لعبت الولايات المتحدة دوراً رئيسياً في إعادة بناء أوروبا وحمايتها من التهديدات الخارجية. ومع ذلك، يبدو أن ترامب يرى أن أوروبا باتت تستفيد من المظلة الأمريكية دون تقديم مقابل عادل.
وقد دفع ترامب دول الناتو لرفع إنفاقها الدفاعي إلى 2% من الناتج المحلي، وهو هدف تحقق بالفعل لدى بعض الدول. لكن المطالب الأمريكية الأخيرة برفع هذا الإنفاق إلى 5% أثارت استياء الأوروبيين، الذين يرون أن هذه التحركات تعيد صياغة القواعد بشكل غير عادل.
على الصعيد الاقتصادي، يواجه الاتحاد الأوروبي تحديات واضحة. فقد تراجع الناتج المحلي الإجمالي للفرد في أوروبا مقارنة بالولايات المتحدة من 68% قبل ثلاثة عقود إلى 50% اليوم. هذا التراجع، إلى جانب الضغوط الأمريكية، يجعل أوروبا تبدو أضعف في نظر ترامب، مما يزيد من تعقيد العلاقة.
فضلًا عن ذلك، يعاني الاتحاد الأوروبي من تحديات داخلية مثل تداعيات بريكست، وتصاعد النزعات القومية، والانقسامات بين دول الشرق والغرب الأوروبي. هذه التحديات تجعل من الصعب على أوروبا تشكيل جبهة موحدة في مواجهة الضغوط الأمريكية.
الصين: المستفيد الأكبر
في ظل هذا التوتر، تبرز الصين كأكبر المستفيدين. بينما تحاول واشنطن تعزيز تحالفاتها مع دول مثل اليابان والهند لمواجهة النفوذ الصيني، قد يؤدي ضعف التنسيق الأمريكي الأوروبي إلى دفع أوروبا نحو توثيق العلاقات مع بكين.
على سبيل المثال، تُظهر مبادرة “الحزام والطريق” الصينية كيف تنجح بكين في اختراق الأسواق الأوروبية، خاصة في دول البلقان وجنوب أوروبا التي تعاني من أزمات اقتصادية. هذا التوجه يعكس احتمالية تحول أوروبا من الاعتماد الكامل على الولايات المتحدة إلى شراكات جديدة مع قوى صاعدة مثل الصين.
سياسة “أمريكا أولاً” التي يتبناها ترامب قد تحقق مكاسب قصيرة الأجل، لكنها تحمل مخاطر استراتيجية طويلة الأمد. فشعور الدول الأوروبية بعدم موثوقية الشريك الأمريكي قد يدفعها لتعميق تعاونها مع الصين، مما قد يغير موازين القوى العالمية بطرق غير متوقعة.
ثقافة الشعوب وتغير التصورات
التوتر بين الولايات المتحدة وأوروبا لم يعد محصورًا بين القادة السياسيين فقط، بل امتد ليؤثر على الشعوب. استطلاعات الرأي الأخيرة تشير إلى تراجع شعبية الولايات المتحدة بين المواطنين الأوروبيين، الذين يرون في سياسات ترامب تراجعًا عن القيم الديمقراطية المشتركة. هذا التغيير الثقافي قد يزيد من صعوبة ترميم العلاقة حتى بعد تغير القيادة في البيت الأبيض.
خاتمة
العلاقة بين الولايات المتحدة وأوروبا تمر بمرحلة حرجة، حيث تتقاطع المصالح الاقتصادية والسياسية مع التحديات الجيوسياسية. ومع استمرار الضغوط الأمريكية، يتعين على القادة الأوروبيين التفكير في استراتيجيات جديدة لتعزيز استقلالهم الاقتصادي والعسكري، دون التضحية بالشراكة التاريخية مع واشنطن.
في المقابل، تحتاج الولايات المتحدة إلى إعادة تقييم سياساتها لضمان الحفاظ على التحالف عبر الأطلسي كركيزة للاستقرار العالمي. يمكن تحقيق ذلك من خلال الحوار المشترك وتطوير آليات أكثر توازنًا للتعاون في مجالات الأمن السيبراني، والطاقة، والتكنولوجيا. الحفاظ على هذا التحالف ليس مجرد خيار، بل ضرورة استراتيجية لمواجهة التحديات العالمية، مثل صعود الصين والتغيرات المناخية.