التضخم… حين تتحول الأرقام إلى قلق إنساني
في كل صباح، يستمع المواطن إلى نشرات الأخبار أو يقرأ في الصحف عن معدلات التضخم: 2%، 4%، 7%. أرقام تتكرر وكأنها لغة خاصة بالاقتصاديين وحدهم. لكن الحقيقة أن هذه النسب المئوية ليست مجرد بيانات باردة، بل هي انعكاس مباشر لحياة البشر اليومية، في طعامهم، في سكنهم، وفي قراراتهم المصيرية.
الاقتصاديون يدركون أن العالم لا يسير وفق معادلات رياضية دقيقة، بل تحكمه سلوكيات البشر، بما فيها من خوف ورغبة وطموح. ولهذا حين يحدد البنك المركزي هدفًا للتضخم عند 2%، فإن المقصود في الواقع أن النطاق المقبول يتراوح بين 1% و3%. هذه المرونة تمنح الأسواق ثقة بأن الأمور تحت السيطرة. فإذا بقيت الأسعار ضمن هذه الحدود، يواصل المستثمرون ضخ أموالهم، وتستمر الحكومات والشركات والأسر في اتخاذ قراراتها من دون قلق مبالغ فيه.
لكن حين تبدأ الثقة في التآكل، ويشعر المستثمرون أن الأسعار قد تفلت من عقالها، يولد ما يسميه الاقتصاديون بـ عدم اليقين التضخمي. وهو ليس مصطلحًا مجردًا، بل حالة قلق جماعية. فالمستثمر يصبح أكثر حذرًا، ويطالب بعلاوة إضافية مقابل المخاطرة، أي “تأمين مالي” يحميه من المستقبل المجهول. هذه العلاوة تترجم إلى ارتفاع تكلفة الاقتراض على الجميع:
* الحكومة تدفع ثمنًا أعلى لتمويل مشاريعها أو لسداد ديونها، فيزداد العجز ويصعب ضبط المديونية.
* الشركات تجد أن تكلفة الاستثمار ارتفعت، فتؤجل خطط التوسع أو التوظيف، فيتباطأ النمو ويقل خلق فرص العمل.
* الأسر تواجه أقساطًا أعلى للقروض العقارية والاستهلاكية، فيتراجع الاستهلاك ويؤجل الكثيرون أحلامهم البسيطة كامتلاك بيت أو تعليم الأبناء.
التجربة التاريخية تثبت أن الخوف من التضخم قد يكون أخطر من التضخم نفسه. ففي سبعينيات القرن الماضي، شهد العالم موجة تضخم جامحة بفعل صدمات أسعار النفط والسياسات النقدية المتساهلة. لم يكن ارتفاع الأسعار وحده هو المشكلة، بل انعدام الثقة في قدرة الحكومات على السيطرة. احتاجت الاقتصادات الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، أكثر من عشرين عامًا من السياسات الصارمة لإعادة بناء هذه الثقة.
اليوم، ومع كل أزمة مالية أو سياسية، يعود شبح التضخم ليطل برأسه. جائحة كورونا مثلاً لم تترك أثرًا صحيًا فقط، بل فجرت أيضًا ضغوطًا تضخمية عالمية نتيجة تعطّل سلاسل التوريد وزيادة الإنفاق الحكومي. ومع الحرب في أوكرانيا، تضاعفت المخاوف بسبب ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء. وفي كل مرة، يعيد المستثمرون حساباتهم، ويطالبون بعائدات أعلى، فتتأثر الحكومات والشركات والأسر على حد سواء.
التجارب الدولية تقدم صورًا متباينة. ففي اليابان، عانت البلاد لعقود طويلة من التضخم السلبي (الانكماش)، حيث كانت الأسعار تميل إلى التراجع لا الارتفاع، ما جعل الناس يؤجلون الإنفاق أملاً في أسعار أرخص لاحقًا. أما في أمريكا اللاتينية، فقد عرف الناس وجهًا آخر للتضخم، حيث تحولت الأرقام إلى كوابيس يومية تجاوزت أحيانًا مئات في المئة، وأصبح شراء الطعام أو الوقود تحديًا وجوديًا. هذه التجارب المتناقضة تكشف أن التضخم ليس مجرد قضية اقتصادية، بل هو مرآة للثقة بين الدولة والمجتمع والسوق.
الرسالة الأهم هنا أن التضخم لا يُقاس فقط في جداول البنوك المركزية، بل في نبض حياة الناس. فحين ترتفع أسعار الغذاء، يضطر الأب إلى تقليص مصروف أسرته، وحين ترتفع أقساط القروض، تؤجل الأسرة حلم شراء منزل. وحين يتباطأ الاستثمار، يواجه الشاب الباحث عن عمل أبوابًا مغلقة. كلها مظاهر إنسانية لظاهرة تبدو للوهلة الأولى مجرد أرقام جامدة.
إن الاقتصاد في جوهره ليس علماً نظريًا مجردًا، بل هو علم الإنسان: كيف يستهلك، كيف يستثمر، كيف يثق أو يشك. والتضخم بما يحمله من أبعاد نفسية وسلوكية يذكرنا أن إدارة الاقتصاد ليست مجرد ضبط أسعار أو معدلات فائدة، بل هي أيضًا فن بناء الثقة. وإذا غابت هذه الثقة، فإن أي رقم، مهما كان صغيرًا أو كبيرًا، يتحول إلى مصدر قلق جماعي.
ولهذا، فإن المعركة الحقيقية مع التضخم ليست فقط معركة سياسات نقدية ومالية، بل معركة على الثقة ذاتها: ثقة المواطن في حكومته، وثقة المستثمر في استقرار السوق، وثقة المجتمع في مستقبله. وإذا نجحنا في بناء هذه الثقة، فإن الأرقام ستتوازن وحدها، وسيصبح الاقتصاد أكثر قدرة على مواجهة العواصف



