موجات الحر… الخطر الصامت الذي يعيد رسم ملامح الاقتصاد الأوروبي والعالمي

لطالما ارتبطت تقلبات الاقتصاد العالمي بعوامل معروفة مثل الأزمات المالية أو التوترات الجيوسياسية، لكن هناك متغيرًا جديدًا يتسلل بهدوء إلى المعادلة الاقتصادية، حتى بات يصعب تجاهله: موجات الحر المتطرفة. هذه الظواهر، التي كانت تُدرج سابقًا ضمن اهتمامات البيئة والمناخ فقط، تحولت اليوم إلى عامل بنيوي في تفسير التضخم وتباطؤ النمو، خاصة في أوروبا.
أوروبا تشتعل… والاقتصاد يدفع الثمن
خلال صيف 2022، الذي سجل درجات حرارة قياسية غير مسبوقة في أنحاء أوروبا، ارتفع تضخم أسعار المواد الغذائية بما بين 0.4 و0.9 نقطة مئوية، بحسب بيانات البنك المركزي الأوروبي. ولم تكن ألمانيا بمنأى عن التأثير، حيث تباطأ نمو الناتج المحلي بشكل واضح، في ظل تراجع الإنتاجية وارتفاع التكاليف التشغيلية.
وفي صيف 2023، تكررت الأزمة بشكل أكثر حدة. فقد أدى تضرر المحاصيل الزراعية بسبب الجفاف وحرارة الشمس الحارقة إلى ارتفاع أسعار الخضروات بنسبة تجاوزت 13% خلال شهر واحد، بينما ارتفعت أسعار الطاقة في بعض المدن الأوروبية بنسبة 7% نتيجة تضاعف الطلب على التبريد.
مناخ يربك البنوك المركزية
في ظل هذه المعطيات، يجد البنك المركزي الأوروبي نفسه في مواجهة معقدة. فالتضخم لا يأتي من الإفراط في الاستهلاك، بل من صدمات مناخية تضرب جانب العرض: محاصيل أقل، إنتاجية أضعف، طاقة أغلى. وقد وُصف هذا التحدي بأنه تغير هيكلي يتطلب إعادة صياغة للسياسة النقدية تأخذ في الحسبان ليس فقط تغير المناخ، بل أيضًا تدهور الموارد الطبيعية مثل التربة والمياه والأسماك.
ورغم المعارضة، يتمسك البنك المركزي الأوروبي بموقفه القاضي بدمج الاعتبارات البيئية ضمن أدوات السياسة النقدية، في رؤية تختلف عن موقف الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، الذي يعترف بالأثر المناخي لكنه يرفض أن يكون طرفًا مباشرًا في التحول نحو الاقتصاد الأخضر.
موجات الحر.. تضخم صامت ينخر النمو
ما نشهده ليس مجرد موجة طقس صيفية، بل تحول مناخي هيكلي يُنتج تكاليف اقتصادية غير مرئية لكنها عميقة. فارتفاع درجات الحرارة يؤدي إلى تراجع الإنتاجية، خصوصًا في قطاعات حيوية مثل الزراعة والبناء والنقل. ومع تضاعف الاعتماد على التكييف والتبريد، تزداد فواتير الطاقة، وأوروبا تستورد معظم حاجتها منها، مما يفاقم دوامة التضخم.
القدرة الشرائية للأسر الأوروبية تتآكل تدريجيًا، مع ارتفاع تكاليف الغذاء والطاقة والرعاية الصحية، ما يضعف الاستهلاك الداخلي ويُبطئ النمو الاقتصادي.
الزراعة أول الضحايا… لكنها ليست الوحيدة
القطاع الزراعي الأوروبي تلقّى ضربات قوية خلال الأعوام الأخيرة. ففي إسبانيا، تراجع إنتاج القمح بنسبة 27% خلال 2023 مقارنة بعام 2022. وتشير التقديرات إلى أن نصف الأراضي الزراعية في جنوب القارة مهددة بفقدان خصوبتها بحلول عام 2030.
لكن التأثير يمتد أيضًا إلى الإنتاجية البشرية، إذ يمكن لارتفاع درجة الحرارة بدرجة واحدة فقط أن يخفض إنتاجية العمال بنسبة تصل إلى 1.2%. وتشير تقارير بحثية إلى أن هذه الظاهرة قد تكلف منطقة اليورو خسارة سنوية تصل إلى 0.3 نقطة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي.
التغير المناخي… تهديد اقتصادي متعدد الأوجه
الأثر المناخي لا يقتصر على الزراعة أو الطاقة فحسب، بل يتوزع على عدة جبهات:
اضطراب سلاسل التوريد، خصوصاً مع انخفاض منسوب الأنهار مثل نهر الراين.
ضغوط مالية على البنوك والشركات، وارتفاع تكاليف التأمين.
اتساع الفجوة الاقتصادية داخل أوروبا بين دول الشمال والجنوب.
تحديات أمام السياسة النقدية والمالية في مواجهة تضخم مناخي.
ماذا عن منطقتنا؟
رغم أن التأثير يبدو أوروبيًا، إلا أن المنطقة العربية والخليجية ليست بمنأى عن التداعيات. فارتفاع أسعار الغذاء والطاقة في أوروبا ينعكس على تكاليف الاستيراد في دول عربية عدة، كما تؤثر اضطرابات سلاسل الإمداد على توافر المنتجات الصناعية والطبية. لكن تسارع أوروبا نحو الطاقة النظيفة يفتح أيضًا فرصًا جديدة للاستثمار في الطاقة المتجددة في الخليج.
الخلاصة: مناخ جديد لاقتصاد جديد
ما يجري في أوروبا اليوم هو أكثر من مجرد صيف ساخن. إنها إعادة تشكيل للمنطق الاقتصادي السائد، حيث لم تعد السياسة النقدية منفصلة عن البيئة، ولم يعد التضخم ناتجًا فقط عن الأسواق أو السياسات، بل أيضًا عن الطقس. من لا يدمج المناخ في قراراته الاقتصادية اليوم، سيدفع ثمنًا باهظًا غدًا.