ترامب وباول وجهًا لوجه: زيارة للمبني الفيدرالي ومطالب بخفض الفائدة

د. محمد جميل الشبشيري
في قلب العاصمة الأمريكية واشنطن، تتكشف فصول حوار معقد، يمس جوهر العلاقة بين السلطة التنفيذية والمؤسسات النقدية المستقلة. هذا الحوار، الذي اتخذ أحيانًا طابع المواجهة، دار بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي البنك المركزي الأمريكي جيروم باول. لم يكن الأمر مجرد خلاف حول سياسات اقتصادية، بل امتد ليشمل تساؤلات عميقة حول استقلالية السياسة النقدية ودورها في الحفاظ على استقرار الاقتصاد. لنغوص معًا لنتعرف على تفاصيل هذه القصة، ونستكشف أبعادها المتشابكة، محاولين فهم وجهات النظر المختلفة التي شكلت هذا المشهد الفريد.
زيارة لموقع بناء: أكثر من مجرد تفقد
كانت البداية بزيارة قام بها الرئيس ترامب إلى موقع مشروع بناء ضخم تابع للفيدرالي في واشنطن، يوم الخميس الماضي، ليتلقى ترامب وباول وجها لوجه، لتفقد مشروع تجديد لمبنيين تاريخيين تقدر تكلفته بنحو 2.5 مليار دولار. للوهلة الأولى، قد تبدو الزيارة روتينية، تفقدًا لأشغال تجديد، لكن سرعان ما اتضح أن هذه الزيارة كانت تحمل في طياتها رسائل أعمق بكثير، تتجاوز مجرد التفاصيل الإنشائية. كانت إشارة واضحة إلى التوتر الكامن بين الإدارة الرئاسية والمؤسسة النقدية، وإلى النقاش الدائر حول من يملك الكلمة الأخيرة في توجيه دفة الاقتصاد.
صوت الرئيس: انتقادات وتساؤلات
لم يتردد الرئيس ترامب في التعبير عن وجهة نظره بصراحة، حيث وجه انتقادات لمشروع التجديد، مشيرًا إلى ما اعتبره “سوء إدارة” وتضخمًا في التكاليف. ربط ترامب هذه التكاليف بسياسات التجارة الدولية، في محاولة لتسليط الضوء على التحديات الاقتصادية التي قد تؤثر على مثل هذه المشاريع الكبرى. من المهم أن نفهم أن هذه الانتقادات لم تكن مجرد ملاحظات عابرة، بل كانت جزءًا من رؤية أوسع للرئيس حول كيفية إدارة الاقتصاد، وحول الدور الذي يجب أن يلعبه الاحتياطي الفيدرالي في هذه المعادلة.
فالرئيس ترامب يؤمن بأن خفض أسعار الفائدة بشكل كبير يمكن أن يعزز النمو الاقتصادي، وقد عبر عن هذا الرأي مرارًا، حتى لو بدا ذلك في بعض الأحيان وكأنه ضغط مباشر على استقلالية البنك المركزي. ورغم حدة بعض تصريحاته، إلا أنه أكد في مناسبات عدة أنه لا ينوي عزل رئيس الفيدرالي، مما يعكس تعقيد العلاقة بين الطرفين.
قلق السوق: استقلالية الفيدرالي على المحك
منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008، ترسخ الاعتقاد بأن استقلال البنوك المركزية هو حجر الزاوية لاستقرار النظام المالي العالمي. هذا الاستقلال يمنح البنوك المركزية القدرة على اتخاذ قرارات اقتصادية صعبة، بعيدًا عن الضغوط قصيرة المدى، بهدف الحفاظ على استقرار الأسعار وتعزيز النمو الاقتصادي المستدام. لذا، فإن أي إشارة إلى تدخل متعمد في قرارات السياسة النقدية تثير قلقًا واسعًا في الأسواق المالية. الضغط العلني والمتكرر الذي مارسه الرئيس ترامب على رئيس الفيدرالي، والذي وصل إلى حد المواجهة المفتوحة أمام الإعلام، كان يُنظر إليه على أنه سابقة قد تهدد هذه الاستقلالية. فالمخاوف كانت تتمحور حول فقدان الثقة في قدرة الفيدرالي على أداء مهامه الأساسية، مثل السيطرة على التضخم أو الاستجابة بمرونة للتغيرات الاقتصادية، إذا ما أصبح خاضعًا للضغوط.
الفيدرالي يرد: حقائق وأرقام
في مواجهة هذه الانتقادات، اختار الاحتياطي الفيدرالي مسارًا من الهدوء والشفافية، فبدلاً من الدخول في صدام مباشر قدم الفيدرالي توضيحات فنية دقيقة حول مشروع البناء. أوضحت الوثائق الرسمية أن المشروع واجه تحديات غير متوقعة، مثل إزالة مواد سامة (الاسبيتوس)، وارتفاع في تكاليف العمالة والمواد، وهي عوامل تعزى إلى ظروف السوق والتطورات الجيوسياسية، وليس إلى “سوء إدارة”. كما أكد مسؤولو الفيدرالي أن التغييرات على التصميم الأصلي كانت طفيفة للغاية، وأن الهدف الأساسي من المشروع هو ترميم مبانٍ تاريخية لم تخضع لعمليات تجديد شاملة منذ قرن، وهي تضم الجهاز المركزي للسياسة النقدية في البلاد. هذا الرد، الذي اعتمد على الحقائق والأرقام، عكس رغبة الفيدرالي في الحفاظ على موقفه كجهة مستقلة ومحايدة، تركز على مهامها الاقتصادية بعيدًا عن التجاذبات.
مشروع البناء: رمز لحوار أعمق
لم تكن انتقادات الرئيس ترامب لمشروع البناء محصورة في الجوانب المالية أو الإدارية فحسب، بل امتدت لتشمل الشكل والتصميم. فقد وصف المشروع بأنه “مبهرج ومكلف”، وركز على تفاصيل مثل وجود حدائق على السطح ونوافذ مضادة للانفجارات. هذه التفاصيل، التي أوضحت إدارة الفيدرالي أنها ضرورية لأسباب أمنية وتقنية، ومن وجهة نظر البيت الأبيض، كانت هذه التفاصيل تُستخدم لتصوير المشروع على أنه مثال على التبذير وغياب الرقابة، في حين كان رد الفيدرالي يؤكد على أن هذه الترميمات هي الأولى من نوعها منذ قرن لمبانٍ حيوية تضم الجهاز المركزي للسياسة النقدية في البلاد. هذا التباين في التفسير يوضح كيف يمكن لمشروع مادي أن يتحول إلى ساحة رمزية لصراع أكبر حول القيم، الأولويات، وحتى مفهوم الكفاءة في الإدارة العامة.
يشمل المشروع تجديد مباني الاحتياطي الفيدرالي مبنيين من ثلاثينيات القرن الماضي، وقد أُقر لأول مرة عام 2017. وقد ارتفعت تكاليف المشروع من 1.88 مليار دولار في 2019 إلى 2.45 مليار دولار في 2025. الاحتياطي الفيدرالي برر الزيادة باكتشاف كميات من الأسبستوس أكثر من المتوقع، ونفى وجود “مصعد لكبار الشخصيات”. ترامب زعم أن التكلفة وصلت 3.1 مليار دولار، مشيرًا إلى مبنى ثالث “يُبنى”، بينما نفى باول ذلك قائلاً إنه مبنى قديم. تم تمويل الزيادة عبر تقليص وتحويل موازنات مشاريع تجديد أخرى.
دلالة التوقيت: سياقات متداخلة
جاءت هذه الزيارة في توقيت بالغ الحساسية، قبيل اجتماع مهم للسياسة النقدية بأيام قليلة، وتحديدا يومي 29 و30 من يوليو الحالي، وكانت التوقعات تشير إلى إبقاء الفيدرالي على أسعار الفائدة دون تغيير عند النطاق الحالي (4.25% 4.50%)، حيث يعطي المستثمرون احتمالًا بنسبة تصل إلى 95٪ لعدم التغيير في هذا الاجتماع، فيما يُتوقع أن يبدأ خفض الفائدة في سبتمبر بنسبة 0.25٪.
هذا التوقيت يثير تساؤلات حول الدوافع الكامنة وراء هذه المواجهة العلنية. ففي ظل إشارات بتباطؤ زخم الاستثمار الصناعي وتذبذب سلوك المستهلكين، ربما كان هناك رغبة في توجيه رسالة معينة قبيل القرارات الاقتصادية الهامة. هذه التداخلات بين الأحداث الاقتصادية والسياسية تظهر مدى تعقيد المشهد، وكيف أن كل خطوة يمكن أن تحمل أبعادًا متعددة.
جاء رد فعل الأسواق المالية على زيارة ترامب هادئًا. فقد ارتفع العائد على سندات الخزانة الأمريكية لأجل عشر سنوات قليلًا بعد صدور بيانات أظهرت تراجع طلبات إعانة البطالة، ما يشير إلى استقرار سوق العمل، وبالتالي عدم وجود حاجة ملحة لخفض الفائدة من جانب الفيدرالي. وأنهت الأسواق الأميركية الأسبوع على ارتفاع بعد أن تصدى رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول لهجوم علني من الرئيس ترامب خلال الزيارة. وارتفعت المؤشرات الرئيسية، حيث صعد S&P 500 وداو جونز وناسداك.
وكانت انتقادات ترامب لباول وتلميحاته المتكررة بعزله قد أزعجت الأسواق المالية سابقًا، وهددت إحدى الركائز الأساسية للنظام المالي العالمي، وهي استقلالية البنوك المركزية عن التدخلات السياسية.
وتُعد هذه الزيارة مغايرة لزيارات رئاسية قليلة موثقة للبنك المركزي، إذ زار الرئيس فرانكلين روزفلت الاحتياطي الفيدرالي عام 1937 لتدشين مقره الجديد آنذاك – وهو أحد المبنيين قيد الترميم حاليًا. أما آخر زيارة رئاسية قبل ذلك فكانت للرئيس جورج بوش الابن في 2006 لحضور مراسم تنصيب بن برنانكي رئيسًا للبنك
خلاصة: حوار مستمر حول الاستقلالية
إن المشهد الذي تجلى في واشنطن لم يكن مجرد خلاف عابر بين شخصيتين بارزتين، بل كان اختبارًا حقيقيًا لمبدأ جوهري في الأنظمة الاقتصادية الحديثة: استقلالية السياسة النقدية. هذا المبدأ، الذي يهدف إلى حماية البنوك المركزية من الضغوط السياسية قصيرة المدى، يواجه تحديات مستمرة في عالم تتداخل فيه السياسة والاقتصاد بشكل متزايد. إذا ما أصبح الضغط السياسي على البنوك المركزية أمرًا معتادًا، فقد يؤثر ذلك على ثقة الأسواق في قدرتها على الحفاظ على استقرار العملة ومقاومة التضخم. إن تجربة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، كأقوى مؤسسة نقدية في العالم، في التعامل مع هذا النوع من التدخل، تحمل دروسًا مهمة للبنوك المركزية في الدول الأخرى، وتفتح النقاش مجددًا حول الحوكمة، والرقابة، والدور الحيوي للمؤسسات المستقلة في تحقيق التوازن والاستقرار في الدولة الحديثة. يبقى هذا الحوار حول الاستقلالية مستمرًا، وهو يعكس التحدي الدائم في الموازنة بين الإرادة السياسية وضرورات الاستقرار الاقتصادي.