قرار الفيدرالي الأمريكي: قراءة في الدوافع والتوقعات المستقبلية

بقلم/ د. محمد جميل الشبشيري
مقدمة
في خطوة اقتصادية حاسمة، أقدم مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في اجتماعه الأخير على خفض معدل الفائدة الأساسي بمقدار 25 نقطة أساس، ليصبح في نطاق يتراوح بين 4.00% و4.25%. يأتي هذا القرار في سياق اقتصادي معقد يتسم بتراجع ملحوظ في مؤشرات سوق العمل، حيث شهد نمو الوظائف تباطؤًا وارتفع معدل البطالة بشكل طفيف، بينما لا تزال معدلات التضخم تحوم عند مستويات مرتفعة نسبيًا. يهدف هذا المقال إلى تحليل الدوافع الكامنة وراء هذا القرار، واستكشاف التوقعات المستقبلية للسياسة النقدية الأميركية، مع التركيز على النهج الوقائي الذي يتبناه الفيدرالي في إدارة المخاطر الاقتصادية.
الدوافع وراء قرار خفض الفائدة
لم يكن قرار الفيدرالي بخفض معدل الفائدة مجرد استجابة مباشرة لتغيرات طفيفة في التوقعات الاقتصادية، بل يمثل نهجًا استباقيًا لإدارة المخاطر المحتملة. على الرغم من أن التوقعات الاقتصادية الرسمية للفيدرالي لم تشهد تغيرًا جوهريًا منذ تحديث يونيو الماضي، باستثناء تعديل طفيف في معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي لعام 2025 من 1.4% إلى 1.6%، فإن المؤسسة النقدية اعتمدت استراتيجية وقائية. هذه الخطوة لا تُقرأ باعتبارها انعكاسًا مباشرًا لتحسن الظروف الاقتصادية، بل هي استجابة استباقية لاحتمالات مزيد من التدهور في سوق العمل.
وقد أكد رئيس المجلس جيروم باول خلال مؤتمره الصحفي أن المخاطر على جانب التوظيف قد ازدادت، مما استدعى التحرك نحو سياسة نقدية أكثر حيادية. هذا التصريح يسلط الضوء على الأولوية التي يوليها الفيدرالي للحفاظ على استقرار سوق العمل، حتى في ظل استمرار تحديات التضخم. إن التباطؤ في نمو الوظائف والارتفاع الطفيف في معدل البطالة يشيران إلى أن سوق العمل قد بدأ يفقد بعضًا من زخمه السابق، مما يثير مخاوف من ركود محتمل إذا لم يتم اتخاذ إجراءات داعمة.
التوقعات المستقبلية للسياسة النقدية
أدرج الفيدرالي في مساره المستقبلي خفضين إضافيين للفائدة خلال ما تبقى من عام 2025، على أن يتبع ذلك خفض تدريجي بمعدل مرة واحدة سنويًا في عامي 2026 و2027. هذه التوقعات تعكس رؤية مزدوجة ومعقدة للوضع الاقتصادي. فمن جهة، هناك حاجة واضحة لدعم النشاط الاقتصادي وتجنب الانكماش، خاصة مع تزايد المخاطر في سوق العمل. ومن جهة أخرى، يقر الفيدرالي بأن معدلات التضخم قد تستعيد زخمها في مطلع عام 2026، مما قد يستدعي وقفة محتملة في دورة التيسير النقدي.
هذا التوازن الدقيق بين دعم النمو والتحكم في التضخم يوضح مدى تعقيد البيئة الاقتصادية الحالية. فبينما يسعى الفيدرالي إلى توفير حماية استباقية ضد احتمالات ركود سوق العمل، فإنه يترك لنفسه مساحة من المرونة للتعامل مع مسار التضخم لاحقًا.
تأثير الرسوم الجمركية والتضخم
فيما يتعلق بتأثير الرسوم الجمركية على التضخم، اعتبر جيروم باول أن آثارها مرجّحة لأن تكون قصيرة الأجل. هذا التصريح يعزز القراءة القائلة إن الفيدرالي يوازن بدقة بين الضغوط الآنية والتوقعات طويلة الأمد. فبينما يمكن أن تساهم الرسوم الجمركية في ارتفاع الأسعار على المدى القصير، فإن تأثيرها على التضخم الكلي والمستدام قد يكون محدودًا، مما يسمح للفيدرالي بالتركيز على العوامل الهيكلية الأخرى التي تؤثر على التضخم وسوق العمل.
تأثير القرار على الأسواق المالية والسياسة النقدية العالمية
لم يقتصر تأثير قرار الفيدرالي الأميركي بخفض أسعار الفائدة على الاقتصاد المحلي فحسب، بل امتد ليشمل الأسواق المالية العالمية والسياسات النقدية للبنوك المركزية الأخرى. ففي الأسواق المالية، غالبًا ما يؤدي خفض الفائدة إلى زيادة شهية المستثمرين للمخاطرة، مما قد يدفع أسعار الأسهم للارتفاع ويقلل من جاذبية السندات الحكومية. كما يمكن أن يؤثر على أسعار صرف العملات، حيث يميل الدولار الأميركي إلى الضعف مقابل العملات الرئيسية الأخرى في بيئة أسعار فائدة منخفضة، مما يجعل الصادرات الأميركية أكثر تنافسية ويزيد من تكلفة الواردات.
على صعيد السياسة النقدية العالمية، يمكن أن يضع قرار الفيدرالي ضغوطًا على البنوك المركزية الأخرى، خاصة تلك التي ترتبط اقتصاداتها ارتباطًا وثيقًا بالولايات المتحدة. فإذا كانت البنوك المركزية الأخرى تسعى للحفاظ على استقرار عملاتها أو دعم اقتصاداتها، فقد تجد نفسها مضطرة إلى محاكاة خطوة الفيدرالي بخفض أسعار الفائدة للحفاظ على الفارق في العائدات وتجنب تدفقات رأس المال الكبيرة. هذا التنسيق غير المباشر في السياسات النقدية يمكن أن يؤدي إلى دورة عالمية من التيسير النقدي، مما قد يدعم النمو الاقتصادي العالمي، ولكنه قد يثير أيضًا مخاوف بشأن التضخم المستقبلي أو فقاعات الأصول في بعض الأسواق.
الخلاصة
يمثل قرار الفيدرالي الأميركي الأخير بخفض معدل الفائدة جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية إدارة المخاطر، أكثر منه انعكاسًا لتحسن الظروف الاقتصادية. يهدف هذا القرار إلى توفير مظلة حماية استباقية ضد احتمالات ركود سوق العمل، مع الحفاظ على مرونة كافية للتعامل مع مسار التضخم في المستقبل. هذه الاستراتيجية توضح الطبيعة التوازنية التي باتت تحكم السياسة النقدية الأميركية في المرحلة الراهنة، حيث تتقاطع أهداف دعم النمو مع مقتضيات استقرار الأسعار ضمن بيئة اقتصادية شديدة التعقيد. إن قدرة الفيدرالي على الموازنة بين هذه الأهداف المتعارضة ستكون حاسمة في تحديد المسار الاقتصادي للولايات المتحدة.